103 سنوات ولا أزال أتنسّم هواء القدس، وأحتفظ بقلمي الذي لن يجفّ حبره، أدون فيه ذكريات فلسطينية عايشتها منذ عام 1936 إلى يومنا هذا"، بهذه الكلمات استهلّ الحاج محمد جاد الله كلامه متحدثًا عن عديد الحقب الزمنية التي عايشها في المدينة المقدسة ودونها في كتاب خاص.
بصوته الشامخ يقول الحاج الملقّب "أبو نهاد": "عاصرتُ نهاية الخلافة العثمانية والانتداب البريطاني وحرب عام 1948 وحرب عام 1967، فخططت كتابي لأنقل تاريخ فلسطين إلى الأجيال القادمة ولتبقى عاصمتنا الأبدية عصية على النسيان".
في كتاب "مائة عام من حياتي" جمع جاد الله خلاصة ذكرياته من الفترات التاريخية المختلفة مسلّطاً الضوء بكثافة على أحداث نهاية الانتداب البريطاني وكلّ معارك الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين.
النشأة والتاريخ
ولد الحاج جاد الله في 17 مايو/أيار 1921 في قرية "صور باهر"، والتحق بعدة مدارس حتى أنهى المرحلة الثانوية. عمل نادلًا في عدة أماكن كان آخرها قبل الحرب فندق الملك داود بالقدس، ثم فقد عمله فيه بعد تفجيره على يد "مناحيم بيغن" الذي كان يترأس عصابة الأرغون الصهيونية حينها.
يستذكر سنوات شبابه، قائلاً: "عند بلوغي سن السادسة والعشرين، اختارت الهيئة العربية العليا في فلسطين بالتعاون مع الحزب العربي الفلسطيني في القدس، شبابًا من مناطق عدة بهدف إرسالهم للتدريب العسكري في سوريا، بتنسيق مع جامعة الدول العربية".
مثلت تلك الفترة سنوات رحلة الحاج جاد الله النضالية، حيث وصل إلى معسكر قطنة في الأراضي السورية، وتسلم بزّته العسكرية وأتم إجراءات التسجيل والانضباط بحسب متطلبات الجيش.
ووفق المعمّر المقدسي، فقد مكث في المعسكر ستة أشهر تلقى خلالها تدريبات شاقة على أسلحة فرنسية من رشاشات وبنادق وقنابل، ثم حصل على تدريب في إعداد الألغام و"الكوماندو"، وقبل تخرجهم من المعسكر بأسبوع واحد زارهم الشهيد عبد القادر الحسيني.
يتمتم الحاج الذي لا يزال يحتفظ بحضور وذاكرة لم تنل منها الأيام: "عدت إلى القدس ودّربت أبناء قريتي على الرماية واستعمال السلاح، وانخرطت في السرية الرابعة، من الفوج الثالث برتبة ملازم أول".
وعن تلك الفترة يذكر: "كانت الذخيرة شحيحة والأسلحة من مخلّفات الحرب العالمية الثانية، ومليئة بالصدأ والرمال، ففُرض علينا القتال غير المتكافئ مع العصابات الصهيونية التي حصلت على عتاد ضخم من الجيش البريطاني".
معاركٌ في الكتاب
خاض المعمّر جاد الله معارك كثيرة، منها الشيخ جرّاح والقسطل والنبي يعقوب وجبل المكبّر وكفار عصيون، وغيرها الكثير.
وعن أكثر المعارك تأثيرًا في حياته، يقول: "معركة القسطل كان لها وقعها السلبي على نفسي، ففيها استُشهِد القائد عبد القادر الحسيني وسقطت القسطل بيد العصابات الإسرائيلية".
ويشير الحاج أن معركة القسطل شكلت منعطفًا خطيرًا في حربنا مع الاحتلال، فكانت "إمكانياتنا ضعيفة والأسلحة أقل من البدائية، واستشهد فيها القائد الحسيني، فكانت كلّها بمثابة أسباب لسقوط القسطل على أيدي العصابات".
ومجزرة دير ياسين من الأحداث التي لا تغفل عن ذهن جاد الله، وذلك عندما اقتحمت العصابات الصهيونية القرية وقتلت أهلها وعاثت فيها فسادًا، ما دفع السكان في باقي القرى إلى الهجرة "خوفًا من تكرار الحدث ذاته في قراهم".
وتطرق المعمر المقدسي في كتابه، إلى أحداث تبين بسالة المصريين من جنود وضباط ومتطوعين في الدفاع عن فلسطين، وخوضهم معارك عدّة في القدس ومحيطها إبان حرب عام 1948، حيث كانوا يعملون على تهريب السلاح عبر الصحراء الغربية من منطقة مرسى مطروح، وجلب بقايا أسلحة الجيوش من مخلفات الحرب العالمية الثانية.
ونسّقت وحدات من الإخوان المسلمين بمصر، بقيادة اليوزباشي محمود عبده والملازم عوض زعزع، بينها وبين أبناء بلدة صور باهر المقدسية، وبالتحديد مع "السرية الرابعة، الفوج الثالث من جيش الجهاد المقدس بقيادة الزعيم الفلسطيني عبد القادر الحسيني".
ويذكر جاد الله أن عدد الإخوان المسلمين كان 60 فردًا وكانوا مرتبطين بالجيش المصري الذي كان المسؤول عنه يلقب بـ"الضبع الأسود" الذي يحمل رتبة عسكرية كبيرة.
مواقف
ومن مواقف الصمود التي خطّها، أسر ضابط مصري في إحدى المعارك التي دارت مع العصابات الإسرائيلية، وعندما تقرر الإفراج عنه بموجب اتفاقية بين الطرفين استدعاه ضابط إسرائيلي وسأله "هل كنت مع الإخوان المسلمين التابعين للجيش المصري؟ فرد عليه الضابط المصري بسؤاله: لماذا تسأل؟ فأجاب: أريد أن أعرف سبب فشلنا في اقتحام الخطوط الأمامية لدخول صور باهر".
فأجابه الضابط المصري: "أمنية كل فرد من المناضلين والإخوان الموجودين في الخطوط الأمامية على جبهة صور باهر الشهادة، وسبب فشلكم أيضًا هو طاعتنا العمياء للضباط والقيادة المصرية".
ويشير المعمر المقدسي إلى أن القيادة المصرية كانت تصرّف لقوات الجهاد المقدس، المواد الغذائية كما تصرفها للجنود المصريين.
ويختتم أبو نهاد حديثه: "النصر آت، وهذا وعد الله عزّ وجل، وسنرجع إلى أرضنا وأوطاننا ومقدساتنا".