لا بدَّ من فهم طبيعة المقاومة الفلسطينية وماهيتها، إذ إن تركيز القوات الإسرائيلية على تركيع المقاومة الفلسطينية في غزة جعل العالم العربي والإسلامي يركز اهتمامه على ذاك النوع من المقاومة دون سواه، ولكن بسبب أن الشعب الفلسطيني يدافع عن قضية تحرر عالمية وقضية عادلة لشعب عاش ويعيش تحت ظلم أكثر الأنظمة وحشية في العالم الحديث، فقد طوّر العديد من الأساليب والوسائل لمقاومة الاحتلال وبالتحديد في المناطق التي لم يفكر الاحتلال يومًا بأنه سيعجز عن اقتحامها.
إنها جنين مهد المقاومين ومهد الشهداء، التي سببت لأكثر الإدارات الإسرائيلية تطرفًا، صداعًا وكابوسًا مستدامًا من حيث سلب العدو القدرة على التوغل في الأراضي الفلسطينية بحرية.
يركز الباحثون والمحللون في تحليلهم لعملية جنين الأخيرة على فقدان الجيش الإسرائيلي لهامش حرية العمل العسكري في الضفة الغربية، وهذا صحيح بالطبع، ولكن الأهم من ذلك الذي يغفله المحللون هو كيف أظهرت المقاومة الفلسطينية إمكانية تشكيل جبهة جديدة مشابهة لغزة في الضفة الغربية، وهذا ما يعد تطورًا مهمًا ومصيريًا إذا ما استغل بالشكل الصحيح والمناسب.
في العملية الأخيرة في جنين فوجئت قوات الاحتلال بتحضر المقاومة الفلسطينية لمثل هذه العمليات، وعليه فلم يكن أمامها سوى اللجوء إلى القوات الجوية لتخليص قواتها من الفخ الذي نصبته لهم فصائل المقاومة الفلسطينية.
نعم اعتادت القوات الإسرائيلية على التنكر باللباس المدني للدخول إلى المناطق والمدن الفلسطينية للقبض على مطلوبين لها، وعندما كانت تنوي الخروج من هذه المناطق فكانت تستنجد بقواتها البرية من مدرعات وسيارات عسكرية، ولكن في العملية الأخيرة في جنين فوجئت قوات الاحتلال بتحضر المقاومة الفلسطينية لمثل هذه العمليات، وعليه فلم يكن أمامها سوى اللجوء إلى القوات الجوية لتخليص قواتها من الفخ الذي نصبته لها فصائل المقاومة الفلسطينية متمثلة بكتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس)، وكتيبة جنين التابعة لسرايا القدس (الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي)، إضافة إلى جهود الشباب الفلسطينيين غير المرتبطين بالفصائل، والذين ساهموا في عرقلة تحرك القوات الإسرائيلية المشاركة في عملية جنين على الأرض.
وأما عن النتائج المهمة التي يمكن استخلاصها من هذه العملية والتي لم يسلط الضوء عليها بشكل كامل هي:
أولًا: تهميش السلطة الفلسطينية، لقد أثبتت هذه العملية للإسرائيليين والفلسطينيين بأنّ السلطة لا تملك أي نفوذ أو سيطرة في أي بقعة من الأراضي الفلسطينية، ولقد أثبتت للاحتلال بأنّ التعويل على التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية لن يغير شيئًا في معادلة الصراع مع الشعب الفلسطيني.
ثانيًا: أثبتت عملية جنين بأنّ هناك مشروعًا قائمًا وحيًّا لتحويل الضفة الغربية إلى قطاع غزة جديد، قادر على كسر تحصينات العدو وقادر على تحويل المنطقة إلى نوع من الحكم الذاتي.
ثالثًا: فرضت جنين نفسها على القوى الداعمة للمقاومة الفلسطينية بوصفها مقصدًا قادمًا للتسلح، بعبارات أخرى، يمكن الآن لداعمي المقاومة أن يدرجوا الضفة الغربية وجنين ضمن مخطط ما يعرف بوحدة الساحات، أي أن جنين والضفة الغربية عامة ستكون مشاركة في أي أعمال ضد إسرائيل إذا تعرضت الأراضي الفلسطينية لأي اعتداء إسرائيلي.
رابعًا: لقد أظهرت معركة الكرامة في جنين للعرب الساعين للتطبيع والذين طبّعوا كذلك، بأنّ من يقاوم في الأراضي المحتلة هم جميع الشعب الفلسطيني وجميع مناطقه، وليست عملية منحصرة وشاذة في قطاع غزة.
خامسًا: لقد أحرجت عملية جنين الولايات المتحدة أمام العالم الحر، وأظهرت حقيقة بأنّ الولايات المتحدة تسعى لقتل القضية الفلسطينية عبر ما تسمى "إستراتيجية مكافحة السامية"، حيث اختارت لهذه المهمة السيدة ديبورا ليبستاد، وهي ركزت جهودها على السعودية والإمارات، ففي زيارتها الأخيرة إلى الإمارات زارت كنيسة موسى بن ميمون ومسجد أحمد الطيب وكنيسة القديس فرنسيس، والتقت بوزير الخارجية الإماراتي وأكدت التعايش السلمي بين الأديان، والسؤال هنا: ألا يجب على الولايات المتحدة (بحسب ادعائها الزائف بأنها قائدة العالم الحر) أن تشكل لجنة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لضربات جوية إسرائيلية في المناطق المدنية؟ ألا يعتبر ذلك معاداة للإسلام والمسلمين؟ أم أن دماء الفلسطينيين لا قيمة لها من وجهة النظر الأمريكية؟
في الحقيقة، ما حدث في جنين ليس ردة فعل أو مخططًا قصير الأجل للرد على الاعتداءات الإسرائيلية بل هو مشروع نفذ وخطط له في سنوات عديدة، هو مشروع تعزز عبر تشابك الأهداف والمساعي الفلسطينية لتحرير الأرض من عدوان إسرائيل المتكرر، لا تنحصر أهمية هذه العملية في تحييد القوات البرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، بل تتعداها إلى كون الضفة الغربية أصبحت ساحة مستعصية على الإسرائيليين ودليلًا حاضرًا على تعرية من طبّع مع الاحتلال، ودليلًا واضحًا وصريحًا على مراوغة الولايات المتحدة فيما يخص الملف الفلسطيني، ونحن بوصفنا مراقبين لهذه القضية ننتظر الكثير والكثير من الضفة الغربية وجنين.