فلسطين أون لاين

الهجرة بين الضرورة الحركية وإغاثة وتشغيل اللاجئين

لابد من وضع الهجرة في سياقها الحركي للدعوة الإسلامية، ولا يمكن فهم الهجرة إلا بفهم هذا السياق، إذ لم تكن الدعوة الإسلامية في حينها نهضة فكرية فقط، ولا عملًا ثقافيًّا وتربويًّا أو صراعًا سياسيًّا أو تحركًا عسكريًّا، ولا إصلاحًا اجتماعيًّا وتطورًا اقتصاديًّا فقط، بل كانت كل هذا في سياق حركي شامل يزن لكل شيء قدره من العمل والاهتمام والتوقيت كأنه محرك تتحرك كل مكوناته بانسجام شامل ليصنع حركة وديناميكية شاملة ومتكاملة.


أمام هجرات متعددة يشهدها العالم الإسلامي هذه الأيام لابد من الإجابة عن هذا السؤال: لماذا كانت الهجرة؟، هناك هجرة من الجنوب إلى الشمال طلبًا للرزق والمعيشة الأفضل، وهناك هجرة قسرية نتيجة للحروب والنزاعات وفرارًا من الموت، وهناك هجرة للأدمغة إذ لا تجد لإبداعاتها فرصًا في بلدانها، وهناك هجرة لطلب العلم، وهناك وهناك.


هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانت غير هذا كله، لقد كانت هجرة بالتحديد لإتاحة الفرصة لولادة دين في مكان أفضل، وليكون المكان المهاجر إليه نقطة انطلاق بهذا الدين إلى العالم كله.


وبالتالي إن لهذه الهجرة بعدًا سياسيًّا إذ دخلت معتركًا جديدًا بطريقة بديعة في العمل السياسي الواقعي الذي يذلل تعقيدات الواقع بما يحقق الأهداف القريبة والبعيدة المدى، وفق فن الممكن والقدرة على إدارة هذا الممكن بطريقة قوية وحكيمة.


ولهذه الهجرة بعد فكري وثقافي وتربوي بحيث تترقى ثقافة المجتمع، وتنهض به الدعوة الجديدة لتجعله قادرًا على حمل أفكار تعيد صياغة ذاك العالم وفق أسس منهجية وفلسفية جديدة.


ولهذه الهجرة انطلاقة نحو قوة حقيقية قادرة على مواجهة كل التحديات والأخطار المحدقة بها، منذ التهيئة في بيعة العقبة، وتحديدًا الثانية حيث كانت البيعة على الجهاد، فكانت الرؤية واضحة تمامًا أن الأمر ليس رحلة أو نزهة أو مجرد تجربة سياسية قد تنجح وقد تفشل، لقد كانت الخطة تتبلور ملامحها بكل وضوح: إنهم ذاهبون إلى المدينة لتشكيل قوة قادرة على إيصال الفكرة إلى كل أهدافها العظيمة.


عندما أصبح مؤكدًا أن مكة بكل مكوناتها السياسية والقبلية وقدراتها على منع انتشار هذه الدعوة وصل بها الأمر إلى الطريق المسدود؛ كان لابد من البحث عن مكان انطلاق جديد تتوافر فيه مواصفات أفضل لتحقيق هذه الانطلاقة، لذلك كانت الهجرة ضرورة حركية لإبقاء جذوة الحراك الفكري والثقافي والتربوي والإعلامي والاقتصادي والسياسي والعسكري في حالة حيوية تسمح له بالانتشار، وتحقيق الأهداف التي من أهمها إنهاء حقبة الجاهلية التي طال بها الأمد على أمة ميتة، واستبدال بها أمة واعية ذات رسالة حضارية حية، يراد منها تحقيق السيادة الحضارية الكاملة.


ونحن هذه الأيام إذا أردنا أن نتعرف إلى هجرة على هدي هجرة سيد الخلق وتخدم واقعنا؛ فلابد من وضعها في سياقها الحركي، وفي ديناميكية الدعوة الإسلامية على أصولها الأولى، وبما يحقق نجاحها كما نجحت في تجربتها الأولى، لذلك لابد من إمعان النظر عميقًا، ورؤية كل الجوانب بدءًا من الدين الحركة، بمعنى الدين الذي يصنع الحراك الإيجابي لإصلاح كل أوضاعنا، ثم تفكيك كل المصطلحات ووضعها في هذا السياق، فيأتي مصطلح الهجرة لنفهم منه أنه حركة في سياق خطة شاملة، تنزل هذه الحركة وكل تطبيقاتها في سياق ما ينسجم مع الخطة ويحقق المصلحة.


أما إذا لم يكن لنا خطة ولا تصور لحدود خطواتنا وإلى أين نحن ذاهبون فكيف نستخدم هذا الفعل الذي اسمه هجرة؟!، عندئذ ستفرض علينا الهجرة وسنذهب إلى حيث تذرونا الرياح في مخيمات اللجوء والشتات، لأننا لا نملك خطة وإنما نملك قابلية للتهجير والشتات، كما حصل معنا اللاجئين الفلسطينيين، وعندئذ ننزل تطبيق "كرت" المؤن والتعايش خططًا للأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين.


هناك فرق شاسع بين من وظف الهجرة توظيفًا حركيًّا سديدًا وكانت عاملًا حاسمًا في الوصول إلى أهدافه، ومن وقع عليه الفعل ولم يزل منذ أكثر من نصف قرن يعاني من آثار هذا التهجير، دون أن يحدث حراكًا يدفعه إلى الأمام في سياق أهدافه، وهذا هو مصير كل من هجروا بعدنا انتهاء _وليس آخرًا_ بالتهجير الذي حل بالسوريين والليبيين واليمنيين ... والقائمة المرشحة طويلة.


لذلك إذا أردنا الاستفادة من حدث الهجرة فلابد من إكمال كل الحلقات التي تجعلنا في حالة إصلاح شاملة، بدءًا من إصلاح الفكر وانتهاء بالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مرورًا بنهضة ثقافية وتربوية وعلمية ناجحة.