تشكل حادثة إعدام الانتداب البريطاني لشهداء "الثلاثاء الحمراء" جزءًا أصيلًا من الذاكرة الثورية الفلسطينية وأدبياتها، لما تنمُّ عنه من ظلم الاحتلال وشجاعة المناضلين الفلسطينيين الذين تسابقوا إلى حبل المشنقة.
وكانت سلطات الاحتلال البريطاني قد أعدمت هذه المرثية تكريمًا للشهداء الثلاثة فؤاد حسن حجازي ومحمد خليل جمجوم وعطا أحمد الزير الذين أعدموا في 17 يونيو/ حزيران 1930، على خلفية مشاركتهم بثورة البراق.
إعدام ممنهج
وقد حُفرت تلك الحادثة في التاريخ الفلسطيني لكونها أول حادثة إعدام لأسرى من سلطة احتلال، لكنها لم تكن الأخيرة، إذ واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسة الإعدام الممنهجة للأسرى الفلسطينيين عبر ارتكاب كل أصناف التعذيب المحرمة دوليًا بحقهم و"إهمالهم طبيًا" ما أدى لاستشهاد العشرات منهم في سجونها، الذين ارتفع عددهم باستشهاد الأسير خضر عدنان إلى 237 شهيدًا، منذ عام 1967م.
بدأت قصة الفلسطينيين الثلاثة وهم: عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، عندما اعتقلت قوات الشرطة البريطانية مجموعة من الشبان الفلسطينيين؛ في إثر ما يعرف بـ “ثورة البراق" وهي الثورة التي بدأت عندما نظم عدد من المستوطنين مظاهرة ضخمة بتاريخ 14 أغسطس/آب 1929 بمناسبة ما ادعوا أنه “ذكرى تدمير هيكل سليمان".
وأقام المستوطنون في اليوم التالي (15 أغسطس/آب) مظاهرة كبيرة في شوارع القدس لم يسبق لها مثيل حتى وصلوا إلى حائط البراق، وهناك راحوا يرددون "النشيد القومي الصهيوني"، تزامنًت مع شتم المسلمين.
وكان اليوم التالي هو يوم الجمعة (16 أغسطس/آب) الذي صادف ذكرى المولد النبوي الشريف؛ فتوافد المسلمون ومن ضمنهم الأبطال الثلاثة للدفاع عن حائط البراق الذي كان في نية اليهود الاستيلاء عليه؛ إذ اندلعت اشتباكات بين الفلسطينيين والمستوطنين.
ولجأت سلطات الاستعمار البريطاني إلى استخدام أقسى أنواع القمع والتنكيل ضد الشعب الفلسطيني، واستُشهد أكثر من 100 فلسطيني وجُرح أكثر من 200، وأصدر المندوب الإنجليزي آنذاك "تكانسلور" أوامره باعتقال المئات من الشعب الفلسطيني "قرابة 900 معتقل".
وفرض الاستعمار غرامات على المناطق التي شاركت في الثورة، وفي محاولة لاحتواء الغضب، أرسل لجنة للتحقيق بالأحداث، اعترفت بحق أهل البلاد في حائط البراق، وقامت برفع تقريرها لعصبة الأمم عام 1930.
وأصدرت سلطات الانتداب حكماً بإعدام سبعة وعشرين فلسطينياً، فخففت حكم 23 منهم للسجن المؤبد، ولكنها أبقت على حكم الإعدام بحق الشهداء الثلاثة، رغم محاولات القادة الفلسطينيين منعها، ولكنها أصرت على ذلك، وظلّ الحدث مخلدًا في الذاكرة الفلسطينية لتسابق الشهداء الثلاثة على الموت في سبيل الله.
مزاحمة على الشهادة
وبحسب الشهادات التي انتشرت عقب عملية الإعدام التي تمت في سجن القلعة في مدينة عكا، فإن محمد جمجوم كان يزاحم عطا الزير ليأخذ دوره غير آبه، وكان له ما أراد، أما عطا فطلب أن ينفذ حكم الإعدام به دون قيود، إلا أن طلبه رفض؛ فحطمّ قيده وتقدم نحو المشنقة رافع الرأس.
وقد سُمح للشهداء الثلاثة أن يكتبوا رسالة في اليوم السابق لموعد الإعدام، خطها الشهيد فؤاد حجازي باسمه وباسم رفيقيه جمجوم والزير، فكتب وصيته وأرسلها إلى صحيفة اليرموك، التي نشرتها في 18 يونيو 1930 بخط يده وتوقيعه، جاء فيها: "رجاؤنا إلى الأمة العربية في فلسطين ألا تنسى دماءنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة، وأن تذكر أننا قدمنا عن طيبة خاطر أنفسنا وجماجمنا لتكون أساسًا لبناء استقلال أمتنا وحريتها".
وأضاف: ”وأن تبقى الأمة مثابرة على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الاعتداء، وأن تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للأخصام منها شبراً، وألا تهون عزيمتها، وألا يضعفها التهديد والوعيد، وأن تكافح حتى تنال الظفر".
وجاء فيها أيضاً " والآن بعد أن رأينا من أمتنا وبلادنا وبني قومنا هذه الروح الوطنية وهذا الحماس القومي، فإنا نستقبل الموت بالسرور والفرح الكاملين، ونضع حبلة المرجوحة، مرجوحة الأبطال، بأعناقنا عن طيبة خاطر فداء لك يا فلسطين... وختاماً نرجوكم أن تكتبوا على قبورنا: "إلى الأمة العربية، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وباسم العرب نحيا، وباسم العرب نموت".
وجاء في ختام الوصية إن "يوم شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج وكذلك يجب إقامة الفرح والسرور في يوم 17 حزيران من كل سنة".
وأردف حجازي بالقول: إن "هذا اليوم يجب أن يكون يومًا تاريخيًا تُلقى فيها الخطب وتنشد الأناشيد على ذكرى دمائنا المهراقة في سبيل فلسطين والقضية العربية".
الثلاثاء الحمراء
وعن سبب التسمية بـ “الثلاثاء الحمراء"، بين عدنان بدوي يعقوب جمجوم (أبو علاء)، ابن شقيق الشهيد محمد جمجوم في لقاء صحفي سابق: "إن الشهداء الثلاثة أُعدموا يوم ثلاثاء، وكانوا ثلاثة، وشنقوا في 3 ساعات متتالية: الساعة 8 فؤاد حجازي، والساعة 9 عطا الزير، والساعة 10 محمد جمجوم".
ويوضّح أن معلومات وصلت إلى الشهداء الثلاثة باحتمال استبدال حكم الإعدام في آخر لحظة بالسجن المؤبد، لذلك كانوا يتسابقون إلى الموت، فمحمد لم يكن متزوجاً ولم تكن لديه عائلة، خلافاً لرفيقيْه، وطلب أن يُعدم في البداية، حتى إن كانت هناك فرصة في النجاة تكون لأحدهما.
ويستحضر جمجوم ردود الفعل يوم الإعدام وفي الأيام التي تلته، وقال: إن الشعب الفلسطيني هب في وجه الانتداب، وصدحت المساجد بالأذان وعلا صوت الأجراس في الكنائس.
ويضيف أن السلطات البريطانية رفضت الإفراج عن جثامين الشهداء الثلاثة لمنع تفاقم الهبة، ودفنتهم داخل سجن عكا 40 يوماً، ثم أفرجت عن الجثامين إلى المقبرة الإسلامية هناك في عكا.
وخلدت قصيدة إبراهيم طوقان “الثلاثاء الحمراء” قصتهم، إلى جانب مرثية نوح إبراهيم الشهيرة “من سجن عكا طلعت جنازة”، وكلتاهما غنّتهما فرقة العاشقين المحلية ولا يزال الفلسطينيون يرددونهما إلى الآن.
مرثية خلدت الشهداء
أما مرثية الشاعر الشعبي نوح إبراهيم فجاء مطلعها "من سجن عكا طلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي.. وجازي عليهم يا شعبي جازي.. المندوب السامي وربعه عمومه".
والشهيد عطا الزير من مواليد مدينة الخليل وعمل في مهن يدوية عدة واشتغل بالزراعة وعُرف عنه منذ صغره جرأته وقوته الجسدية، وشارك في المظاهرات التي شهدتها المدينة احتجاجاً على الهجرة إلى فلسطين.
والشهيد محمد خليل جمجوم منحدر من مدينة الخليل أيضاً، وقد تلقى دراسته الابتدائية فيها، وعندما خرج إلى الحياة العامة عاش ظلم الانتداب، وعرف بمقاومته للصهاينة ورفضه للاحتلال مثل العديد من أبناء الخليل.
وكان جمجوم يتقدم المظاهرات احتجاجًا على اغتصاب أراضي الفلسطينيين، ودفاعًا عن المسجد الأقصى ما جعل سلطات الاحتلال البريطاني تقدم على اعتقاله.
أما فؤاد حجازي فكان أصغر الشهداء الثلاثة سنًّا وهو مولود في مدينة صفد، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في الكلية الأسكتلندية، وأتمّ دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وعرف منذ صغره بشجاعته وحبه لوطنه، وشارك مشاركة فعالة في مدينته في الثورة التي عمت أنحاء فلسطين.