على الرغم من مرور ثلاثة أرباع القرن على إنشائها، وتمكين الغرب لها في الإقليم، عبر استنهاض اقتصادها، وتعزيز ترسانتها العسكرية بأعتى وأحدث المنظومات التسليحية. فضلا عن إعانتها على إعاقة تطور العديد من القوى المنافسة لها في محيطها. تبقى (إسرائيل) أسيرة لمعضلتها الوجودية، متعددة الأبعاد.
تبدو الدولة العبرية في سبيلها للانتقال من "صهيونية قومية" إلى "صهيونية دينية". فعلى الرغم من تأسيسها عام 1948 من لدن جوقة علمانية غير متدينة، حرص ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لها، على استبقاء الحاخامية اليهودية الكبرى، مرجعية دينية لليهود، ومسوغا لإثبات الهوية الدينية لدولتهم الوليدة. بموازاة ذلك، برز تيار "الصهيونية الدينية"، الذي يمثل أقصى اليمين المتطرف. حيث انفصل عن الحاخامية الرسمية التقليدية، وشكل "مجلس الحاخامية الكبرى الجديد"، مرجعية دينية له. وبعدما تمكن هذا التيار من السيطرة على مفاصل الحكومة، أسس «جماعة ضغط» داخل الكنيست، باسم "لوبي الحرية اليهودية على جبل المعبد"، بغية ترجمة رؤيته إلى سياسات وتشريعات.
ما إن أفرزت انتخابات نوفمبر الماضي حكومة يمينية بالغة التطرف، ترتكن على أحزاب دينية متشددة، تدفع (إسرائيل) باتجاه "دولة شريعة توراتية"؛ حتى قفزت نسبة الراغبين في الهجرة، من الشباب، والعلماء، ورجال الأعمال، وذوي التوجهات العلمانية واليسارية، من 10، إلى 15%. هربا من تداعيات «التحولات الديموغرافية والأيديولوجية» الناجمة عن تعاظم نفوذ المتشددين في حكومة نتنياهو، وما استتبعته من صراع حول هوية الدولة، ما بين يهودية وديمقراطية. ومؤخرا، نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية، تقريرا بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس (إسرائيل)؛ حذرت خلاله من مخاطر انعطافها المفرط صوب اليمين الديني المتطرف.
أمنيا، وبينما اعتبر، ديفيد بن غوريون، أن مصير (إسرائيل) يبقى مرتهنا بتفوق إمكاناتها الدفاعية وتعاظم قدراتها الردعية؛ أضحى الأمر موضع تشكيك من قبل إسرائيليين كثر.
فلقد أثار مقتل مجندين إسرائيليين على الحدود مع مصر، المخاوف من افتقاد الجيش للاتصال اللوجيستي الفعال، وآليات التأمين والمراقبة الدقيقة للحدود. وبينما دأبت (إسرائيل) على التفاخر بكفاءة منظوماتها للدفاع الجوي، تحذر مصادر استخباراتية من تطوير الفصائل الفلسطينية قدراتها التسليحية، بما يخولها اختراق "القبة الحديدية"، التي كان تفوقها يعتمد على بدائية المقذوفات والصواريخ الفلسطينية. وعلى الرغم من إجراء الجيش تمرينات دورية لقواته النظامية والاحتياطية، للتعامل مع تحديات عملياتية متزامنة على مختلف الجبهات، تظهر نتائج آخر استطلاعات رأي نشرتها صحيفة "معاريف"، تشكيك 56٪ من الإسرائيليين بنجاح جيشهم في تحقيق الردع التام.
تعاني العلاقات المدنية ــ العسكرية في (إسرائيل) ارتباكا مقلقا. فمن جهة، انخرطت قوات الاحتياط في التظاهرات الرافضة لإصلاح قضائي، تسعى حكومة نتنياهو لتمريره، وهددت بتعليق مشاركتها في التدريبات، والعمليات، حتى يتراجع عن مخططه، الذي يشكل تهديدا للديمقراطية الإسرائيلية، وانتهاكا للميثاق الاجتماعي، الذي بموجبه التحق الاحتياط بالجيش.
كذلك، يخشى الاحتياط من أن يفضي إضعاف الضوابط القضائية على السلطة التنفيذية، إلى تمكين الحكومة من استخدامهم لتنفيذ أجنداتها السياسية المريبة، بما يعرضهم للمساءلة الجنائية الدولية. وبينما اتهم وزير المالية قوات الاحتياط بتنظيم «تمرد» عسكري، اعتبرت صحف يمينية موقفهم أقرب إلى انقلاب عسكري كلاسيكي.
من جهة أخرى، أكدت مصادر إسرائيلية انخفاض أعداد المجندين عام 2020، وتزايد نسبة المعفيين، من 7.9% عام 2018، إلى 13% عام 2023. وتمتنع فئة اليهود «الحريديم»، البالغ تعدادها 1.28 مليون، تمثل 12% من سكان (إسرائيل)، عن التجنيد، متذرعة بالتفرغ لخدمة الرب. وبينما يطالب حلفاء نتنياهو اليمينيون وأحزاب ليبرالية ويسارية، بضرورة مشاركة «الحريديم» في الخدمة العسكرية والمدنية، يأبى المتدينون إلا الاعتكاف على دراسة التوراة، فيما يرونه حصانة روحية لـ(إسرائيل). وإلى جانب عرب 48، والدروز، هناك جماعات ترفض التجنيد عملا بمبدأ «اللاعنف». الأمر الذي يغذي الانقسامات داخل الجيش، ويقوض رقابة السلطة المدنية عليه. كما يلحق الضرر بأمن (إسرائيل)، عبر إرسال إشارات إلى خصومها، مفادها أن جيشها ومجتمعها منقسمان وضعيفان، ما قد يحفزهم على اختبار قدراتها الردعية.
اقتصاديا ورغم كون اقتصادها أحد أكثر اقتصادات العالم ازدهارا -إذ حقّقت شركاتها في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والزراعة، والدفاع وغيرها، نجاحا هائلا- تواجه (إسرائيل) أزمات اجتماعية طاحنة. فلديها ثالث أعلى معدل فقر بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. فبحسب تقارير لمنظمة "لاتيت" نهاية 2022، يعانى قرابة 30% من سكانها الفاقة. كما تكابد أكثر من 312 ألف عائلة، تمثل نحو 10% من إجمالي الأسر، انعدام الأمن الغذائي، بعدما توقفت الدولة عن الاضطلاع بدورها لجهة التخفيف من أصداء قسوة اقتصاد السوق، وضمان العدالة الاجتماعية.
ووفق بيانات بنك (إسرائيل)، يسجل الشيكل أمام الدولار اليوم، أدنى مستوى له منذ قرابة 38 شهرا. تحت وطأة الأوضاع الأمنية والمعيشية المتردية، بدأت الاستثمارات، وشركات التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي تفر إلى الخارج، في حين يتم نقل ملياري دولار يوميا خارج البلاد. وفى رسالة بعثوا بها إلى نتنياهو، لوح رجال أعمال يهود أمريكيون، بحجب استثماراتهم عنها، إذا ما نفذ نتنياهو، خطته للإصلاح القضائي، ما يشي بأن الاقتصاد الإسرائيلي، الذي كان قبلة عالمية للاستثمارات الأجنبية خلال السنوات السبع الماضية، ينزف منذ شهور استثمارات وودائع نحو الخارج، تتجاوز قيمتها عشرين مليار دولار.
أما سياسيا، فتظل الديمقراطية الإسرائيلية منقوصة ومشوهة، حيث قوض قانون القومية الصادر عام 2018، الذي أكد يهودية الدولة، مبدأ المساواة، كما فاقم الخلاف على هوية الدولة بين إسرائيلية ويهودية. وهذا العام انتفض الإسرائيليون احتجاجا على الإصلاح القضائي، الذي تتبناه حكومة نتنياهو اليمينية، في حين يخشى معارضوه أن يؤدي إلى هدم الديمقراطية، لذلك تنطلق منذ أسابيع تظاهرات أسبوعية رافضة، بما يعكس حال التشرذم في المجتمع الإسرائيلي.
وإضافة إلى معارضة إدارة بايدن وحكومات أوروبية عديدة مساعي الحكومة اليمينية المتشددة لتقويض سلطة محكمة العدل العليا، أوردت صحيفة «هآرتس» تحذيرات لإسرائيليين من جهود الحكومة لإقرار قانون «إعادة تعريف اليهودي»، ولا سيما أن مساعي الحكومة الحالية لتشديد قانون الهجرة إلى (إسرائيل) ستعيق الهجرة إليها من اليهود الناطقين بالروسية. وقد ظل تعديل قانون العودة مطلبا متكررا من طرف شركاء الائتلاف الحكومي الحالي، الذين يلحون في إلغاء تعديل 1970، الذي يسمح لشخص لديه جد يهودي واحد على الأقل، بالحصول على الجنسية الإسرائيلية، وهو ما سيرتب عواقب وخيمة على 400 ألف إسرائيلي ناطق بالروسية لا تعتبرهم الشريعة اليهودية يهودا.
وفي خطاب تاريخي ألقاه عام 2015، ذكر الرئيس الإسرائيلي، آنذاك، رؤوفين ريفلين، أربعة كيانات غير متجانسة، وغير متفاعلة، يتكون منها المجتمع الإسرائيلي، وهي: علمانية وقومية دينية ومتشددة، إضافة إلى العرب. وعبر ريفلين عن أسفه من جراء تبني تلك الكيانات المتباينة "رؤى مختلفة" لما يجب أن تكون عليه (إسرائيل)، في حين يغذي الجهل المتبادل وغياب الحوار بواعث التوتر والخوف والعداء والتنافس فيما بينها.
ديموغرافيا تضاعف عدد سكان (إسرائيل) 12مرة، منذ قيامها، حتى بلغ 9.7 ملايين نسمة، من جراء تدفق الهجرات اليهودية إليها، بجانب النمو السكاني في الداخل، بيد أن الهجرة المعاكسة لليهود من (إسرائيل)، فيما يسمى "يورديم"، تمثل إشكالية وجودية بالنسبة لها، لكونها دولة هجرة واستيطان استعماري.
فبحسب دراسة لمركز تراث "بيغن"، ينوي 59% من يهود (إسرائيل) تقديم طلبات للحصول على جنسيات أجنبية؛ في حين تحض 78% من العائلات اليهودية أبنائها على السفر. وتؤكد دراسة صادرة عن مركز "مدى الكرمل" بحيفا، حيازة مليوني إسرائيلي جوازات سفر أجنبية، في حين لا يفكر 400 ألف آخرين يحملون جنسيات دول أخرى في العودة إلى (إسرائيل). ولقد انطوت ظاهرة الهجرة العكسية على «فرار الأدمغة» الإسرائيلية، من أصحاب المواهب، إلى الغرب. وتؤكد قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة أن الإسرائيليين لم يعودوا يرون في مغادرة دولتهم تناقضا مع القيم الصهيونية.
يؤكد الباحثون الديموغرافيون أن مجموع الشعب الفلسطيني يتضاعف كل عشرين عاما، بفعل الزيادة الطبيعية العالية بين الفلسطينيين، في حين يتضاعف مجموع اليهود في (إسرائيل) كل 47 عاما. حيث تشكل الزيادة الطبيعية بين العرب الفلسطينيين أربعة أضعاف نظيرتها بين يهود (إسرائيل)، ما يعنى أن الصراع الديموغرافي بين الجانبين، محسوم لمصلحة العرب على المدى البعيد، خصوصا مع تمسك الفلسطينيين بأراضيهم، وتراجع عوامل الطرد ليهود الخارج، حيث يعيش أكثر من نصف مجموع يهود العالم في دول أكثر جذبا. وبناءً عليه ترجح توقعات إحصائية إسرائيلية تنامي أعداد الفلسطينيين إلى درجة تهبط بعدد اليهود إلى ما دون نصف سكان فلسطين التاريخية بحلول عام 2030. حينئذ قد يتحول اليهود بمرور الوقت إلى أقلية، ومن ثم تهوي (إسرائيل) في دوامة الحرج الديموغرافي، توطئة لولوج جحيم الخطر الوجودي.