أبلغت الحكومة الإسرائيلية الإدارة الأمريكية أنّها تنوي الشروع في تخطيط وبناء 4500 وحدة سكنية في المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وبهذا ضربت (إسرائيل) عرض الحائط التزاماتها بشأن الاستيطان في اجتماعي العقبة وشرم الشيخ، اللذين عُقدا قبل ثلاثة أشهر بمشاركة أمريكية وإسرائيلية وأردنية ومصرية وفلسطينية، وتعهّدت فيهما (إسرائيل) بالتوقّف عن البناء الجديد في المستوطنات لمدة ستة أشهر. ويندرج المخطط الاستيطاني الجديد ضمن مشروع واسع يرمي إلى تغيير التوازن الديموغرافي الضفة الغربية عبر مضاعفة عدد المستوطنين إلى مليون (من دون القدس)، والسيطرة المباشرة على معظم أراضي الضفة الغربية، ومنح شرعية قانونية إسرائيلية للبؤر الاستيطانية كافة، وضم المستوطنات إلى (إسرائيل) ونقل المسؤولية عن المجالات المدنية من الإدارة المدنية الخاضعة للجيش، إلى وزارات إسرائيلية «عادية».
الجريمة والعتاب
منذ تولّي إدارة بايدن السلطة، لا تطالب الولايات المتحدة (إسرائيل) بالتوصّل إلى تسوية، ولا حتى إلى تسوية جزئية أو مرحلية، وهي لم تعد تطلب منها الدخول في مفاوضات ولو صورية أو عبثية. واختزلت الإدارة الأمريكية موقفها من الاستيطان بالقول إنها تأمل بألا تقوم (إسرائيل) بخطوات من شأنها وأد ما يسمى «حل الدولتين»، والقصد عدم بناء مستعمرات جديدة في مناطق حسّاسة مثل منطقة إي.1، التي تربط مستعمرة «معاليه أدوميم» بالقدس، والتي من شأن البناء فيها بتر الضفة الفلسطينية إلى نصفين وقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا. نتنياهو يعرف جيّدا هذا الموقف الأمريكي، فقام بمناورة الإعلان عن نيّتـه الشروع في البناء في هذه المنطقة تحديدا، مستدعيا ضغطا أمريكيا متوقّعا، ليقوم بعدها بالاستجابة له ويجمّد البناء في إي.1، لكنّه أرفق استجابته بإبلاغ عن مشروع استيطاني جديد لإنشاء 4500 وحدة سكنية، ما نشهده في الحقيقة هو مسرحية تراجو- كوميدية من إخراج نتنياهو، ولكن وحتى ولو كانت تلك مسرحية مملّة ومقرفة وخالية من الإثارة ومن جماليات الفن المسرحي، فهي تبقى تراجيديا فعلية يدفع فيها الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من أرضه ومن مستقبل وطنه. لم يعد الموقف الأمريكي رافضا للاستيطان مبدئيا وسياسيا. الموقف الحالي هو موقف متدرّج، فهناك ما ترفضه الولايات المتحدة فعلا وبقوّة وهو بناء يمنع إقامة دولة فلسطينية في نظرها، وهناك ما تقبل به عمليا وهو بناء في ما يسمّى الكتل الاستيطانية الخمسة: 1. مستوطنات «جوش عتصيون» في جبل الخليل، 2. مستوطنات محيط القدس وفي مركزها «معاليه ادوميم»، 3. مستوطنة أريئيل وما حولها في منطقة نابلس، 4. مستوطنات غور الأردن، 5. الأحياء الاستيطانية خارج حدود 67 في القدس الشرقية. أمّا في المناطق الأخرى، فالولايات المتحدة لا تعطي (إسرائيل) ضوءا أخضر لبناء المستوطنات فيها، لكنّها لا تضغط عليها فعليا، وتكتفي بإصدار بيانات انتقاد باهتة. وهكذا ينشأ نوع من التفاهم حول إدارة الخلاف: (إسرائيل) تبني المستوطنات، التي تعتبر جريمة وفق القانون الدولي والولايات المتحدة تصدر بيانات التعبير عن القلق، وبكلمات أخرى اتفاق أمريكا و(إسرائيل) على معادلة «الجريمة والعتاب»، وحين تطرح قضية الاستيطان في مجلس الأمن، نرى الإدارة الأمريكية، تقيم الدنيا ولا تقعدها حتى تقنع العرب أن «يضبّوا الطابق». وحتى قيام الكنيست الإسرائيلي بتعديل قانون الانسحاب من طرف واحد والسماح بعودة المستوطنين إلى المستعمرات الخمس التي جرى تفكيكها عام 2005، بموازاة الانسحاب من سيناء، والشروع بإعادة بناء بؤرة «حوميش» الاستيطانية، لم يدفع الإدارة الأمريكية إلى أي حركة، سوى حركة شفاه المتحدّث في البيت الأبيض، معبرا عن عدم رضى الإدارة عن الخطوة الإسرائيلية، التي جاءت خرقا فاضحا لاتفاق صريح مع إدارة بوش سابقا وإدارة بايدين لاحقا.
خطة المليون مستوطن
أفادت التقارير الصحافية مؤخّرا عن قيام «وزير الاستيطان» الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، بإصدار تعليمات بالشروع بالتحضير لمضاعفة عدد المستوطنين في الضفة ليصل إلى مليون مستوطن، بما لا يشمل القدس. سموتريتش هو وزير المالية في الدولة الصهيونية، وعنده صلاحيات واسعة بكل ما يتعلق بتمويل مشاريع حكومية، وهو في الوقت نفسه وزير في وزارة الأمن ومسؤول عن المستوطنات وعن الشؤون المدنية في منطقة «ج»، وفي موقع الحسم بكل ما يخص تخطيط وتنفيذ المشاريع الاستيطانية. في الماضي جرى التعامل مع سموتريتش بأنّه على الهامش ويمثّل اليمين المتطرّف المهووس، لكنّه اليوم أصبح من أكثر الوزراء الإسرائيليين تأثيرا في صياغة السياسات، وهو في لب مركز صنع القرار. وأكثر ما يهم هذا الوزير هو الاستيطان وإحكام السيطرة الإسرائيلية في القدس وفي الضفة الغربية، ويرى في ذلك مشروع حياته السياسي وحتى الشخصي.
في المنظور الإسرائيلي لا يشمل مشروع المليون مستوطن مدينة القدس، التي جرى ضمّها وأصبحت بموجب القانون الإسرائيلي جزءا من الدولة الصهيونية، وهناك حاجة لوضع النقاط على الحروف بكل ما يخص الواقع الديموغرافي في فلسطين: أولا، هناك اليوم ما يقارب المساواة في عدد اليهود والفلسطينيين على أرض فلسطين، حيث يبلغ عدد الفلسطينيين 7.2 مليون وعدد اليهود 7.1 مليون، ثانيا عدد الفلسطينيين في الوطن مثل عددهم في الشتات تقريبا، ثالثا، عدد الفلسطينيين في الداخل 1.7 مليون، وغزة 2.2 مليون والضفة بما فيها القدس 3.3 مليون (القدس حوالي 400 ألف)، رابعا، العدد الإجمالي للمستوطنين هو 880 ألفا، منهم 380 ألفا في القدس ونصف مليون في بقية مناطق الضفة. وهكذا بحساب بسيط تصل نسبة المستوطنين خارج حدود 67 (لا يشمل الجولان) إلى 21% من مجمل السكان، وفي الضفة من دون القدس تصل هذه النسبة إلى 15%، وهذ ارتفاع حاد مقارنة لما كانت عليه الأوضاع قبل اتفاق أوسلو، الذي لم يعق مشروع الاستيطان قيد أنملة، بل سهّل، بحكم النتيجة، تنفيذ مشاريع الاستعمار الاستيطاني في مناطق الضفة والقدس.
مليون مستوطن
لعل أخطر ما يواجه المشروع الوطني الفلسطيني هو الاستيطان على أرضه، وهذا ليس بالجديد، فمنذ بداية المشروع الصهيوني كان الصراع على الأرض وعلى هويّتها وعلى ملكيّـتها وعلى السكن فيها. وكان الخط المركزي في الفعل الاستعماري الصهيوني هو فرض الأمر الواقع، عبر الاستحواذ على الأرض والاستيطان فوقها. وفي المنظور الفلسطيني التاريخي، لا فرق جوهري بين الاستيطان في منطقة الروحة في أعقاب نكبة 48، والاستيطان في جبل الخليل بعد حرب 67. في كلا الحالتين جرى سطو مسلّح وسلب للأرض والوطن وإسكان للمستعمرين، ولعل الفرق الأكبر هو أن التهجير في حالة 48 كان أوسع وأفظع بكثير، والمستوطنات أقيمت على أراضٍ وفوق ركام القرى المهجّرة والمدمّرة. الفرق بينهما، حاليا، يكمن أساسا في الموقف الدولي، الذي ما زال يعتبر الاستيطان في الضفة غير شرعي وعائقا أمام تحقيق «التسوية». هذا الفرق مهم من الناحية السياسية وهو يستدعي عملا على كل المستويات لترجمته إلى ضغط وردع للدولة الصهيونية، لأن الانفلات الاستيطاني اقترب من نقطة اللا عودة ومن وأد مشروع حل سياسي يشمل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ولكن حتى الذين يدعون لحل الدولة الديمقراطية الواحدة، عليهم أن يحذروا الوقوع في مصيدة استغلال مشروعهم، من حيث لا يدرون، لشرعنة الاستيطان، وعليهم أن يجدوا الطريق للدمج بين متطلبات الحل الاستراتيجي الذي يطرحونه، ولزوم مواجهة فرض الواقع الاستيطاني، وأن يجترحوا فعلا نضاليا في هذا الاتجاه.
من الواضح أن رأس أولويات وأهم أهداف حكومة اليمين الفاشي في (إسرائيل) هو إحداث طفرة نوعية في الاستيطان، لتغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي في الضفة الفلسطينية. وقد رُصدت مليارات الدولارات لهذا الغرض منها مثلا 3.5 مليار دولار لتطوير وشق الطرق بين المستوطنات والمدن الإسرائيلية الكبرى، ومنها أيضا دعم غير محدود للسلطات المحلية وتخفيضات ضريبية للمستوطنين وبناء مرافق ومؤسسات دينية وثقافية وتعليمية إلى جانب أبنية للسكن بأسعار رخيصة وأقساط مريحة. ومن المهم الإشارة الى أن قيادات المستوطنين ومن لف حولها يعتقدون أن الفرصة التاريخية بوجود حكومة يمينية صرفة، قد لا تعود، ويجب استغلالها لتمرير مشاريع استيطانية، خلال عامين أو ثلاثة أعوام، تغير الواقع الجغرافي والديموغرافي والسياسي لعقود طويلة، بالإضافة لذلك يرى الكثير منهم أن الظروف الفلسطينية والعربية والدولية مواتية وعاجزة عن إنتاج مقاومة فعلية للاستيطان واقعا ومشروعا. مشروع مليون مستوطن هو ناقوس خطر يجب أن يجعل النائم العربي يفيق من سباته، وأن يدفع المنقسم الفلسطيني إلى التخلّص من انفصامه، وأن يحرّك المجتمع الدولي ويستفز ضميره. هناك الكثير مما يمكن فعله، ولكن الآن وليس بعد فوات الأوان.