بعد أربعة عشر شهرًا قمريًّا من الإفراج لم يستطع شادي الشرفا تنسُّم الحرية التي لا يزال يشعر أنها مُقيّدة، بعد سحب الاحتلال الإسرائيلي هويته المقدسية، لتبدو الحياة أمامه صعبة ومعقدة، وكأنها تدبير قمعي لأجل تقييد حريته وتقليل حقوقه لكونه مواطنًا فلسطينيًّا.
الشرفا (46 عامًا) من وادي الجوز قرب باب الساهرة في قلب مدينة القدس المحتلة، قضى أول بضعة أشهر من الإفراج في استقبال المهنئين والزوار، لينخرط بعدها في مسار حياة يفترض أن تكون طبيعية لكنها ليست كذلك.
من سجن إلى آخر
يقول لصحيفة "فلسطين": "سحب هويتي قيّد حريتي بشكل كبير، شعرت أنني انتقلت من سجن صغير إلى آخر أكبر منه، حيث يحظر عليّ التنقل في مدينتي وزيارة المسجد الأقصى، أو تكوين حياة خاصة بي كشراء بيت أو سيارة أو حتى الزواج أو فتح حساب بنكي، بسبب عدم وجود بطاقة تعريفية".
"فعلى أرض الواقع أنا محبوس ومُقيّد الحركة، أضطرُّ للتنقل بعيدًا عن الحواجز عبر طرق التفافية، وبالتالي أواجه صعوبة في التعامل مع المؤسسات الحكومية لعدم وجود وثيقة رسمية تعريفية، ما يعيق إمكانية حصولي على خدمات أساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل"، وفق حديثه
ولم تكن حياة الاعتقال جديدة على الشرفا الذي تعرض للاعتقال أول مرة وعمره لم يتجاوز ثلاثة عشر عامًا، عاش خلالها ظروف الأسر والتعذيب بأشكالها المختلفة الجسدية والنفسية، ليقضي قبل اعتقاله الأخير ما مجموعه عامان.
يضيف: "منذ صغري لم أكن أتقبّل حالة الاستفزاز اليومي التي يمارسها الاحتلال وجنوده ضد الفلسطينيين، لأنضمَّ لأعمال المقاومة التي أثّرت في دراستي ولم أتمكن من إكمالها إلا في داخل الأسر، فحصلت على درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال، وأخرى في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ودرجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية".
صمود وإصرار
يروي الشرفا قصة صمود وإصرار في مواجهة تحديات وظروف الأسر الصعبة، حيث تعرض للاعتقال التعسفي والاحتجاز السري والتحقيق القاسي، والتعذيب وسوء المعاملة الجسدية والنفسية خلال فترة التحقيق، بعد مطاردة لأكثر من عام.
قضى الشرفا ما يقارب ربع قرن في سجون الاحتلال تحت ظروف قاسية وتضييق في الحرية والكرامة، فمسيرة الاعتقال تمر بعدة مراحل، تبدأ الأولى من مركز التحقيق، حيث يتم الاعتداء على الأسير بوحشية ولساعات طويلة، ثم ينقل الأسير إلى المسكوبية وتُمارس ضده أشكال مختلفة من التعذيب والحرمان من الطعام وقضاء الحاجة والنوم.
ويشير الشرفا إلى أنّ تجاربه السابقة في الاعتقال جعلته يخوض الاعتقال الأخير بنفسية أقوى، فطيلة أيام التحقيق لم يسحبوا اعترافًا واحدًا منه، ليقطع على المحقق الذي يمارس عمله دون أيّ مشاعر متعة التلذذ بتعذيبه.
وبعد انتهاء تلك الجولة يخوض الأسير معاناة المحاكمة، "فالحكم الذي قضيته جائر، فلا يوجد جهاز قضائي نزيه لدى الاحتلال يحاكم الفلسطيني وفق القوانين والأعراف الدولية، بل يخضع لإملاءات جهاز الشاباك الإسرائيلي".
الحياة داخل الأسر تتطلب من الأسير التأقلم معها، فيصبح مهجعه حياته، لكنّ الأيام الأولى صعبة يحاول خلالها الاستشفاء من التعذيب الجسدي والنفسي ليبدأ بعدها في الانخراط ضمن برامج الأسرى الرياضية والثقافية والتعليمية، "كما وضعت نفسي في برنامج شهري للقراءة المنهجية في الأدب والتاريخ الفلسطيني".
ولم تسمح إدارة سجون الاحتلال للمحرر الشرفا بالالتحاق بالجامعة إلا بعد سنوات، "حاولوا مقارعتي بذلك، فتحرمني فصلًا أو تسمح لي بتسجيل مساقات محددة حتى منعتني بشكل كامل من استكمال دراستي في الجامعة العبرية، فالتحقت بالدراسة في جامعات فلسطينية".
"خلوني عندكم"
وفي الأيام الأخيرة من الأسر استُدعي الشرفا للتحقيق مرتين، وتوقّع تحويله للاعتقال الإداري، "وفي اليوم الذي سبق الإفراج مارستُ برنامجًا بشكل كامل حتى أنّ زملائي كانوا يقولون لي شكلك مش مروح، إلى أن هاتفني شقيقي عبر جوال مُهرّب، وأخبرني بتهديد المخابرات الإسرائيلية له في حال نظّموا أيّ مظاهر احتفالية أو رفعوا الأعلام الفلسطينية".
ويصف مشاعر مغادرة السجن بالمؤلمة، "يصعب عليك ترك زملاء الأسر خلفك، أعرفهم أكثر من أشقائي".
وما إن فُتح للشرفا باب الحرية حتى أُعيد اعتقاله مرة أخرى، ليقضي ساعات تحت التحقيق طُلب منه خلالها بالتعهد والتوقيع على ورقة بعدم الاحتفال، فرفض وردّ عليهم: "خلوني عندكم ما بدي أروح، فسحبوا الهوية".
وعلى الرغم من هذه التحديات يُصمّم الشرفا على المضيّ في حياته، وتطوير مهاراته، إذ يدير اليوم مشتلًا يُحقّق له دخلًا مستقلًّا، كما يريد استكمال مشواره الكتابي الذي بدأه في الأسر، محافظًا على هويته المقدسية وروابطه بأصوله وتاريخه، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية لإلغاء هذه الهوية.
ويأمل الشرفا في يوم ما أن يحصل على حقوقه كاملة، وأن تعود له الحرية في التجوال والعيش في مدينته المقدسة.