فلسطين أون لاين

من رشاشات الثورة إلى شاشات الإعلام.. 75 عامًا لم تتبدل فيها ثوابته

تقرير "محمود العجرمي".. دبلوماسي حمل فلسطين بقلبه وطاف بها حول العالم

...
محمود العجرمي
غزة/ يحيى اليعقوبي:

كبر على حب فلسطين كما كبر على معاناة التهجير، في قصته تتجسد حكاية شعبٍ، فعمره من عمر النكبة الفلسطينية، ظل يتوق إلى العودة لـ "بئر السبع" فحمل مفتاحًا ورثه عن والده، عاش التشرد، دافع عن بلده بالكلمة والسيف، فحمل السلاح في ريعان شبابه؛ امتلأ جسده بالشظايا والإصابات، وحكم عليه بالإعدام في إحدى الدول العربية، لكنه نجا وأكمل تعليمه الأكاديمي، وحمل فلسطين في قلبه عندما انخرط بالعمل الدبلوماسي، وطاف بها بين عشرات دول العالم يعرف بقضيته وهموم شعبه. 

في 15 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1948 أبصر محمود العجرمي الحياة خلال طريق التهجير القسري لوالدته؛ على يد العصابات الصهيونية التي هاجمت "بئر السبع" في لحظة لم يعِها، لكنه كبر على آلامها وحكايات اللجوء والتشرد بعيدًا عن بلدته، فانخرط في صفوف الثورة، وكان مقاتلاً وقائدًا بين وحداتها وتشكيلاتها العسكرية في الأردن ولبنان؛ مدافعًا عن قضيته.

المساومة الأخيرة

دفع العجرمي ضريبة وثمنًا لمواقفه الثابتة التي لم تتبدل ولم تتغير، ولم تجرِ مع "التيارات"، فقطعت السلطة راتبه منذ عام 2006، وحتى قبل ثلاثة أشهر من وفاته جاءه أحد مستشاري رئيس السلطة، ودعاه إلى مأدبة عشاء، وكرر عرض المساومة عليه بأن تصرف السلطة راتبه المقطوع بأثر رجعي، مقابل أن يدعم عبر لقاءاته الإعلامية الخط السياسي لها، وكان جوابه كما في كل مرةٍ بالرفض.

في يومه الأخيرة، في حين كان يستعد لأداء صلاة الجمعة (2 يونيو/ حزيران) الجاري، داهمه شعور مفاجئ بالتعب، فاتصل بأحد أصدقائه الأطباء، الذي بدوره حضر إليه مسرعًا وبرفقته سيارة إسعاف استدعاها، ونقل إلى مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة كما يروي لصحيفة "فلسطين" ابن شقيقه عبد ربه العجرمي (32 عامًا)، لتتبين إصابته بجلطة قلبية حادة، وحاول الأطباء إجراء إنعاش قلبي له، لكنه فارق الحياة.

في مقال حمل عنوان "البدايات والمآلات" خطت يدا الكاتب العجرمي آخر مقالاته في صحيفة "فلسطين"، التي تزينت صفحاتها على مدار سنوات عديدة باسمه، ورؤيته الواسعة، وعمق قراءته للأحداث وربطها، وجاء في مستهل مقاله: "نعيش اليوم الذكرى الـ75 لجريمة التهجير القسري لمئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني بفِعل التآمر الدولي".

على الرغم من أن المقال كان يتحدث عن ذكرى النكبة التي يرتبط بها العجرمي ارتباطًا لافتًا كونه ولد في عام النكبة، إلا أن العجرمي ربطه بالأحداث التي تزامنت مع الذكرى الـ 75 للنكبة، ومنها استشهاد الأسير خضر عدنان، ومعركة "ثأر الأحرار".

بحكم اغتراب ثلاثة من أبناء الدكتور العجرمي، وهم: ابنه الأكبر "دوري"، و"داليا" وهما يعيشان في دولة كندا، و"يارا" في القاهرة، في حين يعيش معه في غزة ابنه الأصغر زين (12 عامًا)، كان ابن شقيقه عبد ربه، الأقرب إلى عمه من أبناء العائلة، فكان شاهدًا على حكايات كثيرة رواها إليه عمه الفقيد من بين الرصاص والخنادق والعمل الدبلوماسي.

"كان عمي يتمنى أن يموت وهو واقف موتة سريعة لا مرض فيها، فمات غير مريض، ورغم تقدمه بالسن إلا أنه حافظ على شبابه وصحته، وإن كان قد أجرى عملية قسطرة قلبية بعد عيد الفطر" يقول العجرمي.

"قضى عمره وحياته لخدمة أبناء شعبه".. جملة غادرت قلب ابن شقيقه، مليئة بنبرة الفخر والاعتزاء، تلخص حياة طويلة عاشها عمه.

حكم إعدام وقطع راتب

بعد انتهائه من دراسة الثانوية العامة بقطاع غزة، أكمل العجرمي تعليمه الجامعي في مصر، ثم التحق بصفوف منظمة التحرير، وقاتل في صفوف الثوار، وحكم عليه بالإعدام مرتين في إحدى الدول العربية، يقول عبد ربه عن عمه: "تلقى جدي خبر وفاة عمي محمود مرتين أثناء الحروب والمعارك لكنه نجا، وجسده يمتلئ بأثر الإصابات من الشظايا".

تطل على حديثه صورة من إحدى جلسات العلاج مع عمه: "عندما كنت أساعده أثناء علاجه من الغضروف وكنت أسأله عن آثار ثقوب تملأ جسده، فكان يروي لي قصصًا كثيرة عن المعارك، فقد كان قائد كتيبة مسلحة في لبنان، وتقلد منصب قائد سلاح الإشارة في جيش المنظمة آنذاك".

حكم الإعدام من اللحظات الفارقة في حياة العجرمي، واعتبر نجاته "ولادة ثانية" له، يروي ابن شقيقه: "صدر الحكم عليه بالأردن، وفي يوم تنفيذ الحكم، اختلف المنفذون على تنفيذ الحكم، وكان جزء منهم يدعم القضية الفلسطينية، وقاموا بتحريره وذهب إلى سوريا".

يتوقف عند قطع راتبه، بعد عمل بالسلك الدبلوماسي منذ عام 1996، فمع فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس بالانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة العاشرة ترأس د. محمود الزهار وزارة الخارجية.

يستذكر العجرمي التفاصيل التي رواها إليه عمه، بأن تعميمات عليا من رئاسة السلطة وصلت إلى موظفي الوزارة بـ "الاستنكاف عن العمل" ومغادرة الوزارة، مضيفًا: "عندما حضر د. الزهار للوزارة كانت الوزارة فارغة ولم يجد فيها سوى عمي، فاستغرب وسأله عن السبب فأجاب: "أنا أعمل لخدمة دولة، وليس فردًا أو تنظيمًا، وسأبقى في وظيفتي".

وأضاف: "رافق عمي د. الزهار في جولة خارجية جابت أكثر من 60 دولة، وكان على رأس الوفد المرافق له، وعندما عاد تفاجأ بقطع راتبه من السلطة، وبقي مقطوعًا حتى وفاته، وظلت السلطة تساومه على قوت أولاده مقابل تغيير كلمة الحق التي كان يتحدث بها، وتأييد مواقف رئيس السلطة السياسية ونهجها مقابل عودة المبالغ الكبيرة بأثر رجعي".

ينقل عن رد عمه على عرض المساومة الأخير من أحد مستشاري رئيس السلطة بعدما رفض المساومة بقوله: "بالنسبة لي لم أتحدث عن رئيس السلطة محمود عباس أو أنتقد مساره السياسي بشيءٍ غير حقيقي، بالرغم من أنه قطع راتبي على مدار 17 عامًا".

من أبرز المناصب التي تقلدها العجرمي: شغله منصب نائب وزير الخارجية الأسبق، ونائب رئيس جامعة فلسطين للشؤون الأكاديمية وعميد كلية الإعلام فيها، بالإضافة إلى عمله الأكاديمي، ومقدمًا خبرته لوسائل الإعلام في الأمن الإستراتيجي، والتحليل السياسي.
يقول ابن شقيقه: إن عمه أتقن سبع لغات مستفيدًا من تجربته في العمل الدبلوماسي، إذ كان يدرس الدولة التي يزورها أو يمكث فيها ويحفظ لغتها، وكان يقول: إن العلم "لا يتوقف عند سن معين"، فدائمًا تراه "يتعلم وعندما تجلس معه، يفصل لك الحياة من منظور ديني وأمني واجتماعي وسياسي ولا تمل من الحديث معه".

مدرس في القيادة

درَّس العجرمي الصحفية سميرة نصار مادة "القيادة" في أثناء نيلها لمتطلب درجة الماجستير في أكاديمية الإدارة والسياسة، تقول عن شخصيته وأسلوبه: "هذه المادة يجب أن يكون من يدرسها يرتدي ثوب القيادة، وكان الدكتور العجرمي شخصية مناسبة لتدريسنا".

تصف نصار أسلوبه الأكاديمي لصحيفة "فلسطين" بأنه "اتسم بالسهولة والمشاركة، يحاول دعمنا بخبرته العملية سواء بداخل الوطن أو خارجه، كان يحترم وجود المرأة بتخصصات العلوم السياسية التي لا تفضله كثير من النساء".

وأشارت نصار إلى أن العجرمي من الأشخاص الواضحين في الرأي والثوابت التي لا تتغير إلا بنسخها لرأي أفضل وأصوب، وكان متواضعًا يفتح مكتبه للطلاب طوال الوقت طالما لم يكن مشغولًا بمحاضرة أخرى، مضيفةً: "كان يستوعب الجميع ويبادلنا الحديث، ومتواضعًا يأتي لأي لقاء أو ورشة حتى لو طاولة مستديرة صغيرة، ويلبي الدعوة، وكان يشعرنا بقيمة رأينا عنده عندما يستشيرنا بمقالاته وبموضوعاته".