شواهد عديدة أكدت في الأيام القليلة الماضية أن عقدة نقص الشرعية التي يعيشها كيان الاحتلال قد تفاقمت أعراضها في الآونة الأخيرة بصورة غير مسبوقة، فالتَصريحات الإسرائيلية المكثفة والمتواصلة من وزراء، وأعضاء كنيست، ومسؤولين سياسيين بشأن يهودية مدينة القدس، ووحدتها كعاصمة أبدية للاحتلال تشير إلى مخاوف إسرائيلية واضحة من تصاعد عدم الاعتراف العالمي بالقدس عاصمة للكيان.
حالة الغرور والإنكار التي تعيشها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بشأن الهوية العربية والآثار الإسلامية والوجود الفلسطيني المتجذر في مدينة القدس، دفعها لتنظيم العديد من الفعاليات الإعلامية، التي تسعى بها إلى الترويج ليهودية القدس، والرفض المطلق للحق الفلسطيني في المدينة، والاستهزاء الأرعن بالإدانات الرسمية التي تطلقها بعض الأنظمة العربية بهدف امتصاص غضب الجماهير الناقمة على كيان الاحتلال، علاوة على استحقار السلطة الفلسطينية التي ارتضت رموزها أن تكون أحد عوامل كبح المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، ومطيَّة وضيعة لحماية المشروع الاستيطاني في الضفة والقدس.
مشاهد الاستفزازات اليهودية للفلسطينيين، التي تمثلت في مسيرة الأعلام الإسرائيلية وما صاحبها من مشاهد عنف ضد المقدسيين، وإطلاق شعارات عنصرية مثل شعار "الموت للعرب"، و"لا نريد مسلمين في القدس"، ومن ثم اقتحام الوزير المتطرف "إيتمار بن غفير" باحات المسجد الأقصى للمرة الثانية منذ توليه وزارة الأمن القومي في حكومة نتنياهو الفاشية، وإقامته صلوات تلمودية علنية في باحات المسجد الأقصى، وإطلاقه تهديدات رعناء لحركة المقاومة الإسلامية حماس إرضاءً لجمهوره المتطرف، والتي تلاها عقد حكومة نتنياهو اجتماعًا رسميًّا في نفق حفرته تحت قبة المسجد الأقصى، وما رافقه من قرارات تتعلق بتهويد مدينة القدس، ولا سيما تخصيص موازنة إسرائيلية ضخمة لتشجيع اقتحام المستوطنين لحائط البراق الإٍسلامي، وتنظيم فعاليات يهودية تحت شعار "إحياء "القدس" كعاصمة للاحتلال، جميعها خطوات تؤكد وجود رغبة إسرائيلية في تسريع خطوات تهويد مدينة القدس المحتلة.
الاستفزازات الإسرائيلية على مدار الأيام الأخير تعبر عن حالة استهزاء واضحة بخطاب محمود عباس الذليل أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستجدائِه بمهانة الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وتشبيهه الفلسطينيين بالحيوانات التي يجب أن تقدم لها الحماية، وهي عبارات قبيحة ومُدانة تعبر عن حالة الخرف السياسي التي وصلت إليها قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، التي تعيش متاهة سياسية، وما تزال تستجدي الحماية، وتعول على التدخل الدولي، ولكنها على الأرض أضحت عنصرًا داعمًا للمشروع الاستيطاني بظاهرة اختفاء عناصرها المسلحين مع كل اقتحام إسرائيلي للمُدن والمخيمات الفلسطينية في الضفة، وتسخيرها جميع مواردها وجهودها لملاحقة المقاومين الفلسطينيين وتضييق الخناق عليهم.
كما أن الخطوات التهويدية الإسرائيلية في مدينة القدس تعبر عن استهزاء حكومة نتنياهو بالإدانات الأردنية المتكررة لخُطوات تهويد القدس، التي تفتقد لأي خطوة حقيقية تواجه المخاطر التي تُحدق بالمقدسات الإٍسلامية والمسيحية في القدس، كما أن تعمّد نتنياهو الاجتماع بحكومته أسفل المسجد الأقصى بعد أقل من ثمانية وأربعين ساعة فقط من إعلان البيان الختامي للقمة العربية في مدينة جدة السعودية، التي تمسكت بالمبادرة العربية للسلام، علاوة على كونه يمثل ضربًا إسرائيليًّا عرض الحائط بمخرجات قمة جدة، ولا سيما تمسك الأنظمة العربية بأوهام التسوية مع الاحتلال، فهو أيضًا يعيد إلى ذاكرتنا خطوة مشابهة قام بها المجحوم آرئيل شارون حين اجتاحت دباباته الضفة المحتلة نهاية مارس 2002م بعد يوم واحد فقط من إطلاق العرب للمبادرة العربية للسلام في قمة بيروت.
من جهة أخرى فإن إطلاق قادة المقاومة الفلسطينية تصريحات تحذيرية وتهديدات متكررة للاحتلال حال إقدامه على خطوات تهويدية في مدينة القدس والمسجد الأقصى ساهم عمليًا في رفع سقف التوقعات تجاه استفزازات الاحتلال المتصاعدة في القدس، مما ساهم في استغلال نتنياهو لهذه التحذيرات الفلسطينية التي لم تجد طريقها إلى أرض الواقع في الترويج لانتصاره على المقاومة الفلسطينية أمام جمهوره اليهودي المتطرف، وعادت بأثر سلبي على الشارع الفلسطيني، وبالرغم من قناعتنا بأن تحذيرات المقاومة واجبة للدفاع عن القدس والأقصى، وردع الاحتلال عن عدوانه في ظل الصمت الشنيع للعالمَين العربي والإسلامي أمام المخاطر المحدقة بالمسجد الأقصى ومدينة القدس المحتلة، إلا أن التصريحات الإعلامية لقادة المقاومة تحتاج إلى مزيد من الضبط، وقراءة بعيدة عن العاطفة، وإقناع الشارع الفلسطيني بمبررات صمت المقاومة على عدوان الاحتلال المتصاعد ضد الفلسطينيين.
وعلى الرغم من تصعيد حكومة نتنياهو لحربها الدينية ضد العرب والمسلمين في مدينة القدس المحتلة، فإن محاولات تقسيم المسجد الأقصى، وفرض السيادة اليهودية على مدينة القدس ستبوء حتمًا بالفشل الذريع، فنتنياهو الذي يترنح سياسيًّا أمام هشاشة ائتلافه الحاكم، واتساع رقعة الأزمة الداخلية، مع تواصل المظاهرات المناهضة لحكمه للأسبوع العشرين على التوالي، فهو يحاول من جهة إرضاء الأحزاب اليمينية التي تمثل ركيزة أساسية في حكومته، ويعمل على صناعة صورة انتصار إعلامي في مدينة القدس، لتقديمها إلى جمهوره المتطرف متجاهلًا أن ثلثَي المستوطنين الإسرائيليين يشككون في نجاح حكومته على تهويد القدس، بل ويرفض 62% منهم العيش في مدينة القدس بحسب استطلاع للرأي أجرته القناة "12" العبرية قبل أيام عدة.
ختامًا، فإن استفزازات نتنياهو وأقطاب حكومته الفاشية تتطلب صمودًا فلسطينيًا أمام هذه الإجراءات التهويدية المتصاعدة، فدعم رباط المقدسيين، وشد الرحال إلى المسجد الأقصى هما من أوجب الواجبات في هذه الأيام على وجه الخصوص، كما أن تصعيد المقاومة في الضفة كفيلٌ بإلجام التغول الإسرائيلي على الدم الفلسطيني، الذي أسفر حتى اللحظة عن ارتقاء 159 شهيدًا فلسطينيًا منذ بداية عام 2023م، وردع حكومة نتنياهو عن المزيد من الاستفزازات في مدينة القدس المحتلة.