فلسطين أون لاين

استقبل "الفاجعة" بعينين مفتوحتين 

تقرير "بائع النعناع".. أرجأ ضابط الاحتلال قصف منزله ليعود بـ "حمولة أكبر"

...
"بائع النعناع".. أرجأ ضابط الاحتلال قصف منزله ليعود بـ "حمولة أكبر"
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أشتالٌ من النعناع كانت مصدر دخل العائلة الوحيد، معظمها تلفت أو أصبحت غير صالحة بسبب السموم الناتج عن القصف الإسرائيلي، وبيت سوي بالكامل بالأرض، وفي منتصفه حفرة عميقة، حظيرة دواجن أبيدت، فلم تنجو إلا دجاجة واحدة، وخيمةٌ نصبها الحاج سمير طه (62 عامًا)، لتأويه وتروي حكاية عائلة تعيش حياة التشرد للمرة الثانية.

"هدم البيت كانتقال من الحياة إلى الموت، كأنك الآن ميت!".. جملة غادرت قلب الحاج وهو يقف على حافة الحفرة، يطل على ركام منزله، تملأ قلبه كومة مشاعر حزينة ترسم طريقًا بين تجاعيد وجهه ولحيته البيضاء، فلم يتبقَّ له سوى عباءة رمادية استطاع النجاة بها يرتديها الآن، وذكريات لم تدم أكثر من خمس سنوات منذ إعادة بناء المنزل الذي هدم للمرة الأولى عام 2014.

في بيته الواقع بمنطقة بيت لاهيا شمال القطاع، يسأل الناس عن السبب الذي اقترفه بائع "النعناع" ليكون هدفًا لجيش الاحتلال، فحياة هذا المسن يمضيها بين السوق الذي يتواجد فيه وزراعة أرضه الصغيرة أمام منزله، هو الآخر يطرح نفس التساؤل الذي لم يجد له إجابة.

ترقب وانتظار

مساء الخميس (11 مايو/ أيار) وحينما ارتدت السماء ثوبها الأسود، قطعت أصوات الانفجارات الناجمة عن قصف إسرائيلي من طائرات حربية تحلق في قلب السماء أو تدنو من منازل أهالي القطاع محاولة الحاج للنوم، كانت أصوات سيارات الإسعاف التي لا تتوقف عن نقل المصابين تصله، قبل أن تخترق صرخات أحد الجيران جدران منزله وأذنيه: "اطلعوا.. بدهم يقصفوكم!".

بملامح شاحبة وابتسامة يختبئ الحزن وراء قفصه الصدري، يتأمل الحاج طه ركام منزله وهو يعيد رسم الحدث: "كانت زوجتي المريضة بالسكر وضغط الدم نائمة، والأحفاد نائمون كذلك، فأيقظتهم، وكانوا يصرخون ويبكون، خرجنا من البيت وخرج الجيران من منازلهم، كأنك تعيش فصول النكبة".

يعيش المشهد مرة أخرى، بكلمات عامية: "صرنا نجري بالشارع مش عارفين وين نروح!".

على مدار ثلاث ساعات، ظل الأطفال والجيران يجلسون على مسافة بعيدة من البيت، يسمعون أصوات الانفجارات القريبة، يفترشون الأرض تحت عيون طائرات الاحتلال الحربية بدون طيار، لكن ضابط المخابرات اتصل بأحد الجيران وأبلغه أنهم "سيعودون باليوم التالي بحمولة أخرى".

عاد بعض الجيران ومنهم من فضل النزوح؛ خوفًا من تكرار الغدر الذي شنه الاحتلال على بيوت عائلات البهتيني وخصوان وعز الدين والغنام، واستشهد خلالها أطفال ونساء وأصيب العشرات وهم نائمون، وتوقف كذلك قلب الطفل تميم داود من الخوف خلال تلك المجازر التي حدثت بشكل متزامن فجر التاسع من مايو/ أيار ومعه بدأ الاحتلال عدوانه على غزة.

هواجس وخوف

"رجعنا إلى البيت، لكننا لم ننم، ظلت الهواجس تسيطر علي، خشيت من النوم ثم استيقظ على فاجعة، ففضلت فتح عينيَّ لاستقبال الصدمة على أن يصدمني أحدهم بها" نظرات عينيه تتألم خلف أنات الوجع الذي يعيشه، وكأن ذاكرته تبخرت من كل شيء، وبقيت أصوات الصواريخ تعيد له المشهد ذاته مرة تلو الأخرى.

في اليوم التالي، وبعد انتظار طويل وعدة ساعات سار خلالها الوقت على ظهر سلحفاة، أفسد صوت الجار ذاته لمة العائلة وهي توشك تناول طعام الغداء: "اطلعوا.. بدهم يقصفوكم".

تعطلت حركة صوته، وحبس دموعًا تحاصر حواف عينيه في لحظة صمت، فقد القدرة على مواصلة الكلام، فقساوة مشهد الركام أمامه يجثم كجبل شاهق الارتفاع على ذاكرته.

أخرج منديلاً من جيب عباءته ومسح دموعًا رفضت الانصياع له، وأبت إلا أن تجري بين تجاعيد وجهه، وبللت صوته: "خرجنا، ووقفت في وضح النهار أرى بيتي وحياتي تدمر أمامي عيني، تساقطت الصواريخ وافترش الدخان الأسود سماء المنطقة، ثم انقشع الدخان وتناثر في السماء، وعدت لأقف على الركام أعيش مشردًا".

يهبط نظره تجاه الحفرة العميقة التي أحدثها الصاروخ، ثم يستدير باتجاه بئر مياه حفره، يقارن: " توشك المياه الجوفية على الخروج، فعندما حفرت بئرًا لم أنزل لهذا العمق التي حفرها الصاروخ".

عندما لامس حديثه لحظة انتهاء العدوان وعودة الطلبة للمدارس، امتلأت عينيه بالدموع مجددًا، يقفز أمامه مشهد بكاء حفيدته لعدم قدرتها على الذهاب إلى المدرسة، وفي نفس الوقت خجلت أن تطلب منه إحضار مريول، لإدراكها صعوبة الحال بعد هذه "المصيبة" التي حلت بهم.

تشردت العائلة المكونة من ثمانية أفراد إلى طابق أرضي في بيت شقيق الحاج المجاور لمنزله، أحدث القصف فتحة في جداره أيضًا يطلون منها طوال الوقت على بيتهم المدمر، ليذكرهم بمأساتهم. 

التشرد الأول

عام 2014، قصف منزله وعاش التشرد، حينها نجت حظيرة الدواجن من الموت، على الرغم من أنه أنشأ حظيرةً مجاورة، لكن الدواجن رفضن الدخول إليها، وبقين يعشن فوق بيتهم المدمر، يقارن المشهد بقسوة التشرد على الإنسان، يتمتم: "إذا الطيور ما قدرت تبعد عن منزلها، كيف إحنا بدنا نتحمل؟".

ويزيد وصفًا على قساوة المشهد بملامح باهتة، انطلقت منه ضحكة في الهواء ممزوجةً بمرارة الواقع الذي فرض عليه: "إحنا هيك تعودنا على الموت، فقصف البيت هو موت للإنسان ولا يعيش إلا إذا رأى نفسه بين أربعة جدران من جديد" هذا ما قاله لزوجته.

على الرغم من التشرد الثاني، إلا أن نظرات ونبرة التحدي لا زالت حاضرة لديه رافضًا الانكسار: "نحن أحياء بذكر الله، وهم (الاحتلال) الأموات، ولن يثنينا القصف عن إرادتنا ومستقبل أولادنا، فلنا حق نريد أخذه".

يتجول نظره في محيط منزله، يحتار في انتقاء وصف لهذه الكارثة التي حلت به، فيتوقف عند أشتال "النعناع".

 يقلب كفيه بينما يتقلب الوجع داخل قلبه وبين ثنايا صوته كما يجثم على ملامحه: "لو ذهبت إلى سوق مشروع بيت لاهيا، ستجدني أبيع النعناع، في الصباح أقوم بقص الأشتال والذهاب بها إلى السوق، ثم أعود لأخذ القيلولة ظهرهًا، ثم ري الأشتال والاعتناء بها عصرًا، هذه هي حياتي ومعروف عني أنني شيخ دعوة".

على الرغم مما لحق به من دمار، إلا أن الحاج طه يستمر في ري أشتال "النعناع" وإزالة الأشتال التالفة وإصلاحها لإنقاذها من الموت، من معاناة التشرد يهمس في أذن كل من ذاق ويلات التشرد: " ها أنا عدت للعمل، ومواصلة الحياة، سآكل من عمل يدي ولن أسأل الناس".