تعد والدة الأسير وائل الجاغوب "64عاماً" الأيام؛ خشية ألا يسعفها العمر في أنْ تلقاه حراً خارج زنازين الاحتلال، إذْ دخل عامه الثالث والعشرين في الأسر، دون أنْ تلوح في الأفق أي بوادرٍ للإفراج عنه في ظل صعوبة وضعه الصحي.
فلم يكنْ اعتقال ابنها البكر "وائل" بالأمر الهين أبداً على الأرملة "صباح دلاش"، التي كانت قد فقدت زوجها في سن مبكرة، وتعول على أنْ يكون "وائل" عوناً لها، في تربية أشقائه وشقيقاته الأربعة، لكنّ الاحتلال الإسرائيلي باغتها باعتقاله في الأول من شهر مايو لعام 2001م.
على الرغم من أنه لم يكن الاعتقال الأول لـ “وائل" إذ سبق أن اعتُقل قبلها مدة ست سنوات، لكنه كان الاعتقال الأقسى الذي ما زالت تعاني آثاره حتى اللحظة، لأن الاحتلال أنزل حكماً قاسياً بحقه بالمؤبد مدى الحياة.
ومنذ ذلك اليوم لم تعد الحياة في منزل" دلاش" لطبيعتها، ففي كل لحظة ومناسبة تفتقد وائل، "أفتقده في زوايا البيت، كلما اجتمعنا أنا وأشقاؤه، كلما طهوتُ طبقاً يحبه، والمناسبات السعيدة تكون هي اللحظات الأصعب، فلا طعم لها بدونه".
ومرّ على الأسرة أعيادٌ كثيرة لم تدخل فيها البهجة لقلب "صباح" وبكرها يرتع في زنازين الاحتلال، ويتعرض للعزل الانفرادي عدة مرات، " تزوج شقيقه وشقيقته وأنجبوا، في كل لحظة تمنيتُ أنْ يكون معي، تمنيتُ أن يكون أول مَنْ يتزوج لديّ لكن قضاء الله غالب".
على الرغم من مرور سنين طويلة على اعتقال وائل إلا أن الأمل بأنْ تتمكن المقاومة من تحريره هو وكل الأسرى ذوي المحكوميات العالية، ما زال يحدو قلب ووجدان أم وائل التي تترقب أي بصيص أمل عن صفقة تبادل قريبة.
وفي ذلك الانتظار لا تؤنس "أم وائل" سوى الصورة الوحيدة التي جمعتهما سويًّا داخل أسوار سجون الاحتلال، تنظر إليها كلما اشتاقت له، وتدعو الله له بالفرج القريب.
وما يزيد ألم الأم أن الاحتلال يقوم بعزل "وائل" انفراديًّا بين الحين والآخر، ما أدى إلى تدهور وضعه الصحي، تقول:" العزل الأخير كان المدة الأطول، فقد ظل معزولاً مدة عام كامل، لا نعرف عنه شيئاً، ومحرومًا حتى من زيارة المحامي، إلى أن انتهى العزل في يونيو من العام الماضي".
وعن سبب العزل، تقول دلاش:" حاولوا تلفيق قضية جديدة لـ “وائل" وأمام إنكاره لكل اتهاماتهم، عاقبوه بالعزل الانفرادي، وليس العزل العقوبة الوحيدة التي يستخدمونها ضد وائل، فالحرمان من الزيارة سلاح آخر، فقد حرموني من زيارته ثمانية عشر شهراً متتاليًا".
وتشير إلى أن الاعتقال الأول لـ “وائل" "47 عاماً" كان وقتها يبلغ (16عاماً) في عام 1992م، واستمرت فترة اعتقاله ستة أعوام، أنهى خلالها الثانوية العامة، ثم أكمل دراسته في جامعة القدس المفتوحة ليحصل على درجة البكالوريوس ثم الماجستير.
وفي كل مرة تزور فيها أم وائل ابنها فإنه يسألها عن كل ما في خارج السجن، عن أقاربه وأصدقائه، عن الوضع العام، عن أحفادها من أشقائه، الذين لا يسمح لهم الاحتلال بزيارته، "يطلب مني صوراً لهم، ويوصيني بأنْ يحافظوا على مسيرتهم الدراسية".
ولكي يستطيع أشقاؤه أنْ يتمتعوا بزيارة أخيهم فإنهم لا يزورونه دفعةً واحدة، بل يقسمون الزيارات بينهم حتى يتمكن كل واحد منهم من قضاء وقت أطول معه".
وتقول:" لم يعد هناك شيء طبيعي في حياتنا بعد اعتقال وائل، ولا طعم للحياة، فالحرمان من الأسير أمر ليس بالسهل أبداً، فقد دخل أبناؤنا الأسر وهم صغار السن وكبروا داخل الزنازين، فحياتنا كلها ظلم بظلم".
وتضيف:" قد تستغربين من أن وائل هو من يمدنا بالمعنويات، يضغط على نفسه كي يبدو لنا في أفضل صورة، يواصل دراسته ويهتم بكل ما يخص الحركة الأسيرة، حيث له كتابات ومقالات في هذا الشأن".
وكانت أجمل لحظة بالنسبة لـ “دلاش" تلك المرة الوحيدة التي استطاعت فيها أن تقابل ابنها الأسير لأول مرة دون قيود، وحظيت بعناقه بضع دقائق معدودة، وذلك لأخذ صورة وحيدة معه منذ عدة أعوام، هي رأسمالها في هذه الدنيا.
وتشير إلى أن صحة ابنها تأثرت سلبيًّا مع العزل المتكرر، لأنه أصيب بتقرحات في معدته نقل على أثرها للمستشفى، " خاض ابني معركة الأمعاء الخاوية عدة مرات، وأمضى سبعة وعشرين يوماً في أطول إضراب له عام 2017".