لا يمكننا تناول شأن يخصّ الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح دون استدعاء إرثها الكبير، الممتد لعقود من الزمن، والناشئ مع بدايات تأسيس الجامعة، ولا يمكننا اختزال دور الكتلة الإسلامية في نطاق المجال التقليدي لأي إطار طلابي عادي، يمارس نشاطاً وطنياً ونقابياً داخل الجامعة، فكتلة النجاح كانت من أهم روافد المجتمع الفلسطيني، وقد ظلت منذ تأسيسها تمده بزاد ثريّ من الكفاءات والشخصيات الوطنية والسياسية والأكاديمية والنقابية والدعوية والمهنية، مثلما أنها كانت في كل الانتفاضات توفر ذخيرة بشرية نوعية من خيرة أبنائها، عُرفت بإنجازاتها العسكرية والوطنية الكبيرة، وكانت من عوامل ديمومتها.
جامعة النجاح هي جامعة عريقة بلا شك، وهي الأكبر فلسطينيًّا، وكانت الحركة الطلابية فيها فاعلة وقوية منذ تأسيسها، حتى انتكاستها التي بدأت في صيف عام 2007، عندما اغتالت عناصر من حركة فتح طالب الكتلة الإسلامية محمد رداد داخل الحرم الجامعي، بعد توزيع بيان للكتلة الإسلامية، ومن وقتها بدأت الجامعة تسير في مسار انحدار متسلسل على مختلف الصعد، حتى تحولت إلى ثكنة أمنية طاردة لكل أشكال النشاط ومانعة لحرية العمل النقابي والوطني، ولم تعد بيئة جاذبة للنوعيات الطلابية المتميزة.
على مدار سنوات تناوبت مخابرات الاحتلال وأجهزة السلطة في ملاحقة واعتقال عناصر الكتلة الإسلامية، وهو حال ينسحب على واقع الكتلة في كل جامعات الضفة الغربية، لكنه في جامعة النجاح كان يتم بشراسة وبدون محاذير، إلى درجة أن أجهزة السلطة أفرزت عناصر من أفرادها للتسجيل في الجامعة والتجند في حركة الشبيبة الفتحاوية، وتركزت مهمتهم في ملاحقة عناصر الكتلة والوشاية بهم ومنعهم من تنفيذ أي نشاط، والتوصية باعتقالهم، وقد تعددت مظاهر الانتهاكات الأمنية داخل جامعة النجاح وفي محيطها، عبر قمع الأنشطة والاعتداء المباشر على الطلاب، حتى بلغت ذروتها منتصف العام الماضي عبر الاعتداء الواسع الذي شنه أمن الجامعة وأفراد أجهزة السلطة على طلبة الكتلة الإسلامية في حرم الجامعة، وما تضمنه من مشاهد ضرب وسحل قاسية، إضافة إلى الاعتداء على الدكتور ناصر الشاعر داخل الجامعة ثم خارجها، وصولاً إلى قمع المظاهرات التي خرجت للتنديد باعتقال أجهزة السلطة للمطارد مصعب شتية، أحد مؤسسي تشكيل عرين الأسود، وهو القمع الذي خلف شهيداً وعدة إصابات، إحداها طالت ابن الكتلة الإسلامية أنس عبدالفتاح، وما زال حتى الآن يتعالج من آثارها.
ما ذُكر هنا غيض من فيض على صعيد انتهاكات أجهزة السلطة وأفراد شبيبة النجاح، لكنها مشاهد لم تمحَ من ذاكرة الطالب، فكان طبيعياً أن تدفع حركة فتح جزءاً من ثمنها في صندوق الانتخابات، في منطقة شمال الضفة تحديداً، وهي المنطقة التي تشهد شراسة أمنية في محاربة المقاومة وكل أشكال النشاط الوطني، لكنها تشهد في المقابل حالة مقاومة فاعلة ومتفاعلة مع وعي المجتمع في تلك المنطقة.
وعند الحديث عن حالة المقاومة وحضورها برموزها وشهدائها وعملياتها في شمال الضفة، فلا بد من التوقف عند أثرها في تشكيل الوعي من جهة وتحريره من جهة ثانية، وخصوصاً في أوساط الجيل الشاب، وطليعته طلبة الجامعات، فحيثما حضرت المقاومة ارتفع منسوب الوعي وتعزز الالتفاف حول منهجها، وتفاعل الناس مع كل تفاصيلها وامتداداتها المعنوية، بمؤازرة من يمثلونها، ومعاداة من يحاربونها، فكيف حين يكون عدد من رموز حالة المقاومة الأخيرة هم من طلبة الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح؟ بمعنى أن الكتلة هنا وهي تقدّم منهج المقاومة عنواناً لها إنما تستند لإرث قديم ومتجدد، وتستمد منه حضورها وجدارتها بالثقة، وتقف على أرض صلبة، حافلة بالحركة، وليست صامتة أو منقطعة الصلة بإرثها الجهادي العريق.
ومع كل هذا، يبقى العامل الأساسي الذي يصنع الفارق هو ثبات وإصرار طلاب وطالبات الكتلة الإسلامية في هذه الجامعة، وعزمهم على تحدي سياسات القمع والتغييب، وتأكيد وجودهم وحضورهم، والاستمرار في نشاطهم، حتى مع شدة الاستهداف، ذلك أن العمل في مثل هذه الظروف يصنع جيلاً نوعياً تمكّن من العمل تحت مطارق القمع، وليس في ظروف مريحة، أي أنه اجترح وسائله وأدواته في استمرار العطاء، وفي تجاوز المصاعب والتكيف مع ظروفها، والتعويض المستمر للخسائر البشرية والمادية، وهذا عملياً حال كوادر الكتلة الإسلامية في كل جامعات الضفة الغربية، أي أنهم يبادرون لانتزاع حقوقهم، وتأكيد حضورهم، ولا ينتظرون أن تُوهب لهم، ولا ينسحبون تحت الضغط والترهيب.
وجيل هذه خصائصه لا شك أن الرهان عليه كبير، والمنتظر منه عظيم، فهو الجيل المنطلق من ركام الشدائد ومن تحت رماد القمع، ولن يتوقع منه التصالح مع واقع القهر، أو تسليم رقبته للجزارين على اختلاف ألوانهم، وهو يعي تماماً أن لا الدماء ولا الأعمار في السجون ستذهب هدراً ما دام يحمل كل هذا اليقين والإقدام والإصرار، وهو يمضي في دروبه الشائكة والطويلة.