يذهب أبناؤها مشيًا إلى مدارسهم، يقطعون مسافة عشرة كيلومترات تحت أشعة الشمس وأمطار الشتاء، وفي حين هي منذ خمس سنوات تغسل الملابس بيديها، تعيش اللاجئة الفلسطينية بسوريا وفاء الشاعر (40 عامًا) وعائلتها حياة بدائية في عصرٍ حديث، فبيتها خيمة في مخيم دير بلوط شمالي سوريا بعدما دمرت الحرب بيتها في مخيم اليرموك.
تحل ذكرى النكبة الفلسطينية الخامسة والسبعون على اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وهم يعيشون نكبات جديدة، وحياة قاسية ذاقوا ويلات الحرب والجوع والحصار وكذلك تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب شمال سوريا في 6 فبراير/ شباط الماضي وخلَّف آلاف الضحايا، يعيشون في مخيمات لا تتوافر فيها مقومات الحياة والخدمات الأساسية، وعلى الرغم من ذلك لم يتخلوا عن حلمهم بالعودة إلى فلسطين التي يتوقون لرؤيتها لو لحظة واحدة.
بعد لجوء عائلتها إبان النكبة إلى سوريا، عاشت الشاعر حياة مليئة بالشوق والعودة حتى نشبت الأزمة الداخلية السورية عام 2011، وعاشت في حصار داخل مخيم اليرموك استمر 7 سنوات.
حصار وجوع
تخرج تلك المعاناة من جدران الذاكرة تتحدث عبر الهاتف لصحيفة "فلسطين": "الحرب قضت علينا، عشنا سبع سنوات في حصار ومذلة، تنقلنا من بيتٍ إلى آخر، أصيبت ابنتي في عينها وزوجي في قدمه وتعطل عن العمل، أكثر ما كان يؤلمني عدم قدرتي على إطعام أولادي في أثناء الجوع".
بنبرة صوت تمتزج بالأسى تصف الحياة بمخيم دير بلوط الذي نزحت إليه قبل خمس سنوات بأنها "حياة وسط الصحراء" تعيش في بيت مكون من غرفتين تحيط بها نصف جدران مسقوفة بالقماش و"الشوادر" لا تقي من شمس الصيف الساطعة التي تسلط أشعتها عليه وتلسع أجسادهم حتى وهم داخل بيتهم، ولا من دلفها من جراء مياه الأمطار.
اقرأ أيضًا: نشطاء فلسطينيون يحذرون من تغيير ذاكرة مخيم اليرموك في دمشق
تدخلك في قلب معاناتها أكثر، تعيشُ وجعًا يتحول لكلمات: "لديّ ابنان يدرسان بالمرحلة الإعدادية يذهبان يوميا إلى مدينة جنديرس التي تبعد عنا عشرة كيلومترات، فإذا عثرا على سيارة أو شاحنة يركبان في صندوقها، وإذا خلت الطريق من أي مركبة فإنهما يذهبان ويعودان مشيًا".
تكمل سرد قصتها: "في بيتي أو الخيمة، لا يوجد كهرباء فنستعمل الطاقة البديلة (لدات) لا يوجد لدينا ثلاجة أو غسالة، فمنذ خمس سنوات أغسل الملابس بيدي، حتى أنني أصبحت أعاني وجعًا في الأعصاب، أعاني معاناة غير عادية".
تلسع حرقة القلب صوتها، تتحدث عن وجه آخر من المعاناة: "إذا مرض طفل لك، فإنك تحتاج إلى مسير ساعتين حتى تصل لعيادة، ننتظر استلام طرد غذائي حتى نبيعه، ننتظر أن يشفقوا علينا، عانينا حصار المخيم والآن نعيش في صحراء بمخيم دير بلوط".
تشبه هذا الحياة حياة اللاجئين نفسها بعد السنوات الأولى للنكبة، "نعيش في خيم وبين رمال في منطقة مقطوعة تخلو من فرص العمل الفرق هو الفاصل الزمني بيننا وبين من عاش النكبة وما بعدها بسنوات".
ما يزيد معاناة اللاجئين الفلسطينيين في المخيم أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أوقفت تقديم الطرد الغذائي عنهم (كابونة) بعد انتقالهم للشمال السوري.
ورغم كل ما تعانيه لم تنس حلم العودة: "بتمنى نرجع على فلسطين، نشوفها مرة محررة".
وقدرت معطيات صادرة عن "الأونروا" نزوح نحو 60% من اللاجئين الفلسطينيين بداخل سوريا، في حين نزح نحو 190 ألف لاجئ فلسطيني خارج سوريا.
زلزال مدمر
تشاركت عائلة اللاجئ علي قاسم الخطيب (52 عامًا) مع معاناة عائلة الشاعر بحياة المخيم فعاش نفس الحصار فعانى هو وأفراد عائلته انتشار الأمراض بمخيم اليرموك بسبب الجوع والحرب، قبل أن ينتقل للعيش هو وتسعة من عائلته لمخيم "جنديرس" شمالي سوريا على أمل أن تتغير حياته للأفضل لكنه كان على موعدٍ مع هزةٍ مدمرة هدمت أحلامه السابقة.
فجر الاثنين الموافق السادس من فبراير/ شباط الماضي، أيقظت هزة عنيفة لجدران المنزل قاسم وأطفاله، تراقصت بهم الجدران، فخرج من المنزل وانتظر في الخارج فاهتزت الأرض من تحتهم مرة أخرى، تهاوت على أثرها بعض البيوت المحيطة، كان بيته الثاني لا يبعد عنه سوى مسير ربع ساعة لكنه لم يستطع الوصول إليه.
اقرأ أيضًا: فلسطينيو سوريا يصارعون الفقر للحصول على لقمة العيش
"قمت بالاتصال على زوجتي وبقية أولادي فلم يرد أحد، خشيتُ عليهم، كنت قلقا، فاتصلت بأحد جيراننا وكان يجهش بالبكاء، سألني: "أين أنت؟" فأخبرته أني ببيتي الثاني، فرد ردًا صدمني حينما قال: "رحمة الله على عائلتك" شعرت أن قلبي توقف وكل شيء انتهي" رغم ما سمعه الخطيب من جاره إلا أنه ذهب لمكان بيته للتأكد بنفسه، بواسطة سيارة مع صديقه.
يتباطأ المشهد أمامه، يطل عليه مرةً أخرى يروي لصحيفة "فلسطين": "وصلت إلى البيت فرأيته مطبقا للأسفل وكأنه لم يكن هناك بيت، لم أتمالك نفسي، بدأتُ بالصراخ والبكاء وفقدت أعصابي من الساعة الرابعة فجرا وحتى العاشرة صباحا".
في لحظةٍ سلم الخطيب لرواية صديقه الأول بأنهم متوفون ينتظر قدوم سيارات الدفاع المدني لإخراج جثامينهم لتشييعهم، جاءه صديقه الذي أقله بسيارته وكان يحاول تحسس أي ثغرة في ركام المنزل توصله إليهم، ينادي عليه: "علي .. أولادك عايشين".
فز من مكانه بسرعة لا يصدق ما سمع وكأن الحياة عادت للدوران بعدما تجمدت، تجمع الجيران وسط تكبيرات، وبدؤوا يحفرون حتى أخرجوا ابنه محمد "شعرت وكأن روحي ردت إلي، ثم توالى خروج جميع أفراد أسرتي وزوجتي كانت آخر من خرج، ولم يصبهم أذى، وكانت خلال احتجازهم تهدئهم بالاستغفار والدعاء وتلاوة القرآن على أمل أن يسمعهم أحد حتى سمع صديقي صوته" يقول.
مرة أخرى عاد الخطيب لحياة التشرد يعيشُ نكبة جديدة داخل خيمة تُؤوي تسعة أفراد بعد هدم بيتيه بفعل الزلزال، ليعيش ثلاث نكبات في حياته بدءًا من اللجوء الأول من فلسطين، ثم النزوح عن مخيم اليرموك، والتشرد من الزلزال، تهونها نجاة أفراد أسرته.
وبحسب المتحدث باسم مجموعة العمل لفلسطينيي سوريا فايز أبو عيد فإن 110 فلسطينيين توفوا بفعل الزلزال، بينهم نحو 71 شخصا توفوا بزلزال سوريا، في حين لا تزال عشرات العائلات مشردة بمراكز الإيواء، وأخرى انتقلت للعيش في بيوت الأقارب، وهذا يشكل عبئا في المستقبل.
وفي 6 فبراير الماضي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا زلزالان بقوة 7.7 و7.6 درجات، وتبعتهما آلاف الهزات الارتدادية العنيفة، ما أودى بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص وخلَّف دمارا ماديا ضخما.