بوجه ذابل مُصفر، وملامح يسكنها الخوف والرعب الشديدين، وصرخة دوت صداها في فضاء منزله، هرع الطفلُ "تميم" مرتعدًا، واستقر في حضن والده محمد داود لحظة اهتزاز جدران منزله على وقع صوت قصف إسرائيلي شديد طال عمارة "الدولي" المجاورة لمنزله، بمدينة غزة فجر الثلاثاء، التاسع من مايو/ أيار الجاري.
في لحظةٍ تهاوت دموع "تميم" ابن الخمس سنوات على وجنتيه، وتجمد الكلام في حلقه ولم ينطق بأي كلمة، حاول والده منحه الدفء والحنان في "أكثر الأماكن أمنًا".
يقول والده: "لحظة القصف كان تميم يجلس بجانبي، بالعادة ينام بحضني ثم أنقله على السرير، ومع صوت القصف قمنا مفزوعين، فصرخ بصوتٍ عالٍ، حينها اقتحم الدخان المنزل وتكسر الزجاج فوق رؤوسنا".
يمزقُ الألمُ صوت الأب كما تشي ملامحه كذلك، مضيفًا "كنا في حالة ذعر، أمامك أشلاء وشهداء، وبعد نصف ساعة شعرت أن تميم اختلف، ملامحه ولون شفتاه مالت للأزرق، اعتقدت أن ذلك مع الخوف، وسيهدأ بعد لحظات".
خوف وقلق
انتقل تميم لحضن والدته، لكنه بقي محاصرًا بين الخوف والصمت على الرغم من محاولة والده مرةً أخرى انتشاله من القلق الذي اجتاح قلب طفله الصغير.
بعينين أذبلهما الحزن يطل والده على تلك اللحظات مرةً أخرى: "حاولت حتى السادسة صباحًا تهدئته، فغفى في حضني، لكنه لم يتحدث، شعرت أنه متعب وموجوع، يريد أن يعبر لي بوجود شيء لكني لم أفهم أنه متألمٌ لهذه الدرجة".
نامت العائلة عدة ساعات بعد ليلة لم يزر النوم عيونهم، فتح "تميم" عينيه على يوم جديد لم تكن طاقته وحيويته المعتادة، تبعه ألم شعر به واختناق بالصدر، كانت علامة على وجود "أمر ما" معها بدأ والده بالاتصال على أطباء وأقرباء له، نصحوه باصطحابه للمشفى، تزامن ذلك وقبل تحرك والده بالسيارة مع حدوث تشجنات للطفل.
يشير الأب نحو منطقة الصدر، بحركات مماثلة كالتي انتابت طفله أمام ناظريه: "صار يخبط بقلبه بيديه ودخل بحالة تشجنج".
لم تستغرق السيارة سوى ثلاث دقائق للوصول إلى المشفى، لكن قلب "تميم" الذي يعاني ضعفًا كان قد توقف في الطريق، "عندما وصلنا أجرى له الأطباء إنعاشًا قلبيًّا، وعاد النبضُ إلى قلبه ضعيفًا".
لحظة رجوع النبض، كأنَّ الحياة دبت في قلب الأب من جديد،أمام غرفة العناية المركزة، كان يطل على ابنه الساكن بلا حركة على سرير المشفى من نافذة زجاجية لا يتحرك منه سوى نبضاتٍ خافتة، أشفق الأطباء عليه وطلبوا منه العودة إلى المنزل، أعطوه جرعات أملٍ بأن "الطفل سيظل تحت المراقبة".
من ينعش قلب الأب؟
حتى الساعةُ الواحدة فجر الأربعاء جافى النوم عيون والد تميم. كان يدرك أن اتصالًا غير معتاد بهذا الوقت يحمل خبرًا قادمًا من المشفى، أدرك أنها لحظات نعي تنتظر التأكيد من المتصل الذي حاول تمهيد الخبر وتخفيف الصدمة رأفة بقلبه، "ربنا يصبرك ويعوضك".
كانت كل ملامح الأب باهتة، إلا من صورة يطل فيها "تميم" بابتسامته ولمعة عينيه مرتديًا ملابس رياض الأطفال مطبوعة على ملصقات تعزية علقت على جدران بيت العزاء، تروي حكاية طفلٍ لم ينعم بالأمن في حضن والده، وداخل بيته، بسبب الاهتزازات والانفجارات التي وصل صوتها قلب كل طفل يعيش في قطاع غزة.
ولد تميم وهو يعاني ضعفًا في عضلة القلب أجريت له عملية قلب مفتوح وهو رضيعٌ بعمر ستة أشهر، وظلَّ والده يتردد على المستشفيات في الداخل المحتل يأخذ علاجاته بشكل روتيني وعادي، ويجري له مراجعات دورية هناك، إلى أن زفت له الطبيبة المراجعة خبرًا أدخل الفرحة إلى قلبه في 17 ديسمبر/ كانون أول 2022 حينما قالت له: "ارمِ الأدوية، ابنك الآن إنسان طبيعي يمارس حياة طبيعية".
الحسرة والقهر تنبعثان من عيني وقلب والده، معلقًا بتنهيدة ألم: "نحن الذين قلبنا سليم 100%، لم نتحمل صوت الضربات والاهتزازات فتعبنا، فكيف بحال قلب طفلي الضعيف؟ لن يتلقى الضربة مثلنا".
منذ فقدان "تميم" بقيت شقيقته "جودي" التي تكبره بعامين تعيش خوف الفقد مرةً أخرى، تمكث في حضن والديها خوفًا من أن تفقدهما كما أخيها، تطلب من والديها التماسك في لحظات الحزن حينما يتغلب عليهما، تربت على كتف والدها مواسيةً ببراءة: "تميم بالجنة، تخافش!"، وتواصل لعبها وحيدةً، وسرعان ما يغلبها الفقد هي الأخرى باحثة عن "تميم" في بيت فارغ من حضوره.