جلس الأخوة الذين لم تجمعهم جلسة وجاهية واحدة منذ 21 عامًا، أمام شاشة هاتفية تجمعهم مكالمة جماعية على أحد تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي مساء أول من أمس، كأنها مكالمة وداع، عندما كلف طارق عز الدين (49 عامًا) المبعد لقطاع غزة شقيقه "جعفر" الموجود ببلدة عرابة قضاء جنين شمال الضفة الغربية بترتيب المكالمة مع جميع إخوته، وجاءت بعد أكثر من شهرين لم يجمع الأخوة اتصال واحد، إذ كان يتصل بهم كل على حدة.
في أثناء المكالمة التي استمرت لأكثر من ساعة أخبرهم أنه سيسافر في صباح اليوم التالي أو بعد يومين في مهمة سياسية تنظيمية، وقد لا يرجع بعدها لقطاع غزة أو قد يستشهد أو يستهدف، ولم يدرك أن الوداع سيكون أقرب مما تخيل، وأن تفاصيل المكالمة ستبقى الذكرى الأخيرة التي تركها لإخوته، بملامحه وصوته وهو يتحدث معهم.
فلم تمر سوى ساعتين على المكالمة الجماعية، حتى أفاق شقيقه جعفر في الثالثة فجرًا على اتصال قادم من قطاع غزة المكان الذي أبعد إليه شقيقه عز الدين بعد تحرره في صفقة وفاء الأحرار عام 2011. أنهى الاتصال حالة الهدوء السائدة في المنزل، بعد أن نقل إليه المتحدث خبر استهداف طائرات الاحتلال لشقة شقيقه "طارق".
وأعلن عن استشهاد شقيقه المحرر والمبعد إلى غزة، واستشهد معه طفلاه ميار(10 سنوات) وعلي (7 سنوات) ونجى من الجريمة، زوجته وابنه الأكبر محمد (25 عامًا) وطفله الأصغر عز الدين (عامان).
مكالمة الوداع
"كانت هذه ليلة الوداع لطارق اتصل بنا جميعنا في مكالمة جماعية، تحدث إلينا كأنه يودع الحياة، وكأنه ألقي عليه كتاب من السماء وبشرى لأكثر من ساعة تحدثنا عن حياته، واستهدافه والأخطار التي تلاحقه، وأنه جهز نفسه للسفر بعد يوم أو يومين فأحب أن يودعنا" بصوتٍ يلسعه جرح الفقد يروي شقيقه "جعفر" لصحيفة "فلسطين" تفاصيل المكالمة الأخيرة.
لا يزال أنين صوته وأوتار حروفه تتردد في أذن شقيقه: "اتصل بي وطلب مني جمع إخوتي كلهم في أحد بيوتنا، وتحدثنا وكان ينوي السفر للخارج وأخبرنا أنه قد لا يعود وقد يُستهدف أو يستشهد، لأن التحذيرات والتهديدات باغتياله تصله من الاحتلال باستمرار وكل شهر استحضر صوته وملامحه وكلماته".
دون أن يدري أن موعد الرحيل سيكون بعد ساعات، كان طارق يذكر أشقاءه أنه مشروع شهادة منذ اعتقاله ومطاردته وإدارته للخلايا العسكرية بعد الإفراج عنه، يقول شقيقه: "كان يطمئننا أن هذا مطلبه وأن حياته طالت".
تمتلئ سيرة الشهيد عز الدين بحكاية مقاومة طويلة، بدأت في مطاردته لأكثر من عامين في بلدة عرابة ومشاركته بإدارة معركة جنين عام 2002، واعتقاله بنفس العام في أثناء محاصرة منزل صديق له تحصن به وحكمه بالسجن المؤبد بنفس العام أمضى منها تسع سنوات وأفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار وأبعد لقطاع غزة، وأصيب بمرض السرطان ووصل لحالة الموت، كما يروي شقيقه، وعولج بمصر وشفي، إلى أن استشهد فجر أمس.
لا يزال شقيقه يذكر لحظة إصدار الحكم حينما وقف طارق أمام قاضي الاحتلال وهو يحكم عليه بالمؤبد مدى الحياة قائلًا بنبرة ثقة: "والله سأخرج بصفقة مشرفة وأنتم إلى زوال".
اقرأ أيضاً: بالفيديو سرايا القدس تنشر مشاهد مصوَّرة للقيادي الشهيد طارق عز الدين
منذ اعتقاله وإبعاده لغزة وحتى استشهاده، لم يلتق عز الدين بعائلته وظل الحنين والشوق يسرقان قلبه إلى جنين، يمتلئ صوت شقيقه بالشوق: "منذ 21 عامًا لم نلتق به ولم نجلس معه ولم يحادثنا بصورة مباشرة، منعنا الاحتلال من السفر لحظة الإفراج عنه عام 2011، حتى والدتي المسنة التي تبلغ من العمر ثمانين عامًا ظلت تتمنى احتضانه حتى قبل وفاتها منذ عام ونصف".
لقاء واحد
حاولت ابنة الشهيد جميلة (27 عامًا) وهي متزوجة من ابن عمها وتعيش بعرابة بجنين، السفر لغزة قبل خمسة شهور للقاء والدها لكن الاحتلال منعها من السفر، لتحتفظ ذاكرتها بلقاء واحد مع والدها عند لحظة الإفراج عنه، حيث سافرت مع أمها وشقيقها محمد لغزة، بقوا هم وعادت هي للضفة، دون أن تتمكن من العودة مرة أخرى.
حينما حلت الساعة الثانية فجر أمس، اهتزت جدران العمارة، وتكسرت النوافذ، وتطايرت الحجارة، وتعالى الدخان، تحرك باب شقة أبو عبد الرحمن، الذي يسكن العمارة نفسها التي يسكن بها عز الدين من مكانه، في لحظةٍ خرج جميع السكان من شققهم وسادت حالة ارتباك، بكاء أطفال، وخوف نساء، نزل الجميع للأسفل يحاولون ابتلاع الصدمة، تأكدوا أن الطابقين العلويين من العمارة هم المستهدفان بعد اشتعال النار فيها، تسلق بعض الرجال درجات المنزل يساعدون في إخراج المصابين وجثامين الشهداء.
أمام العمارة يقف الرجل الخمسيني "أبو عبد الرحمن"، كانت ملامحه المصدومة كفيلة بوقوف الكلام في حلقه، لا يصدق هو وبقية الجيران أنهم نجوا من المجزرة، التي طالت جارهم عز الدين وطفلَيه الذي يسكن بالطابق الخامس من العمارة، واستشهاد جارهم الدكتور جمال خصوان، وزوجته وابنه الذي يسكن في الطابق السادس (الروف).
يتجه نظره نحو شقة جاره المدمرة والواقعة بحي الرمال بمدينة غزة، تخرج الكلمات من قلبه متحدثًا عن صفاته: "كجيران عرفناه مؤدبًا خلوقًا أولاده تربوا تربية إسلامية، ما شهدنا عليه إلا كل خير، يشارك كل فعالياتنا وكنا في العمارة كأسرة، رأيتهُ قبل يومين وكان من ناحية أمنية يتحرك بحذر طوال الوقت".
رحلة تغير مسارها
صباح الثلاثاء، كان علي (7 سنوات) الذي يدرس بالصف الثاني الابتدائي بمدرسة أوائل وقادة، وشقيقته ميار (10 سنوات) بالصف الخامس بنفس المدرسة، يستعدان للمشاركة في رحلة ترفيهية مع زملائهما بالمدرسة على مدن ملاهٍ وألعاب على شاطئ بحر غزة، وهذه الرحلة التي تأجلت مرتين كان الأطفال بالمدرسة ينتظرونها بفارغ الصبر، هذه المرة أفاقوا على خبر إلغائها حزنًا على استشهاد علي وشقيقته ميار اللَذين سافرا لرحلة لا رجوع فيها.
وقفت يسرى العكلوك زوجة الشهيد أسامة الزبدة في حيرة من أمرها، كيف ستخبر ابنها "جمال" أن جاره وصديقه المقرب وزميله بنفس المدرسة "علي" استشهد فـ"خبر إعلامه بإلغاء الرحلة هينًا أمام هذا المصاب"، فقلب طفلها الصغير لا يحتمل إضافة جرح جديد، "كيف ستزف إليه نعيًا جديدًا؟" كتبت هذا المنشور على صفحتها على "فيسبوك" تشارك أصدقاءها ما تعيش من حيرة مؤلمة، وإجابة صعبة على سؤاله لحظة استيقاظه من النوم صباح أمس.
منذ عامين توطدت العلاقة بين جمال وعلي، زاد هذا القرب أن والديهما كان يعرفان بعضهما، وبعد استشهاد "أسامة" كان طارق يدفع بابنه باتجاه توطيد هذه الصداقة مع "جمال".
العكلوك التي لم تشفَ بعد من فقدان زوجها، تمنح نفسها بعضًا من التماسك، تستحضر لصحيفة "فلسطين" صورة من صداقة طفلها بعلي: "كنت أشعر أن جمال يميز علي عن أصدقائه يتقابلان في المدرسة وكل صلاة جمعة، حتى أنه في يوم ميلاده السابع، طلب مني أن أدعو "علي" فقط، لشدة حبه له، لكني أصريت على دعوة بقية زملائه، لفتني هدوؤه وكلامه وأدبه وأخلاقه فكان صاحب شخصية لافتة، وفي الفصل يلقب بـ"حكيم الصف" لكونه من الأوائل إن تحدث يخرج من فمه لآلئ الكلام".