خمسة عشر شهيدًا وعشرون جريحًا حتى مساء أمس الثلاثاء 9 أيار/ مايو في قطاع غزّة، واقتحام لمدينة نابلس في محاولة لتصفية بعض المقاومين أو اعتقالهم، والاستعداد لإطلاق مسيرة الأعلام الصهيونية في القدس بعد أقلّ من عشرة أيام، من بين شهداء قطاع غزّة ثلاثة قادة كبار في "سرايا القدس" الذراع المسلحة لحركة الجهاد الإسلامي، أحدهم أطفاله وعائلته بالكامل ارتقوا شهداء، لن يكون ضحايا القصف الإسرائيلي على غزّة، إلا فاتحة مواجهة كبيرة.
جاء القصف الصهيوني بعد مدة من الترقّب، في إثر صمود الفلسطينيين بالمسجد الأقصى في شهر رمضان الأخير، والردّ على اقتحامه للمسجد بعمليات في الضفة وقصف صاروخي من غزة ولبنان، ثم قصف من غزة بعد استشهاد الأسير خضر عدنان.
بدا الاحتلال مرتبكًا، وقدرته على ما يسميه "الردع" متآكلة، ومن ثمّ، وبالنظر إلى الصورة من زاوية الإنجاز الفلسطيني هذا، كان لا بدّ من توقّع سلوك إسرائيلي يتفق مع رؤية الاحتلال لنفسه، وتقييمه لمتطلبات وجوده في بلادنا، فأكّدنا في مقالة سابقة موسومة بـ"تراجع (إسرائيل).. والقيم العليا للصمود الفلسطيني"، على أنّه: "لا يمكن القول إنّ الإسرائيلي وقف عاجزًا في مواجهة ذلك كلّه، أو أنّه قد قرّر الكفّ عن الفعل والمبادرة، ولكن ما يمكن قوله إنه أكثر ارتباكًا وأقل عزمًا وتصميمًا، وإذا كان هذا أمرًا ملاحظًا فهو غير كافٍ للاطمئنان، فالقلق الوجودي الإسرائيلي المزمن يتشافى بالتخدير بترميم التفوق الأمني، واستظهار العزم والتصميم من جديد، مما يعني أنّ المواجهات الأكبر والأوسع آتية في وقت ما لا محالة"، جاءت الضربة الآن، وجاءت كبيرة.
كلّ ذلك يحصل في ذكرى النكبة الفلسطينية بعد خمسة وسبعين عامًا على وقوعها. باختصار، هذه هي فلسطين بعد هذا التاريخ، فالتفوّق الكاسح للعدوّ واحتفاظه بطبيعته العدوانية جريًا مع أصل وجوده في بلادنا، وشرطًا لاستمرار هذا الوجود، وبعد عقود من دوران قيادة منظمة التحرير في متاهة المبادرات والتسويات، وفي لحظة غير مسبوقة من التخلي العربيّ شبه الكامل عن الفلسطينيين، يقف الشعب صامدًا وحده، على حدود أصالة نكبته يحرسها، وعدوّ هو بدوره كذلك يؤكّد على حقيقة النكبة كما كانت أوّل مرّة، كما لم تزل قائمة.
صمود الشعب، وقدرته على تجديد مقاومته، واستغراق العدوّ، بما هو دولة مدججة بكلّ ما أمكن التفوّق به، مستندة إلى الكرة الأرضية كلّها، في عملية خداع إستراتيجي لترميم "ردعه" من جديد، هو المعنى من كلامنا عن "القيم العليا للصمود الفلسطيني"، وهي الصورة الدقيقة لمعنى "تراجع إسرائيل"، فأن تظلّ (إسرائيل) في طور ما تسميه "حرب الاستقلال" وهي بهذا القدر الكاسح من التفوق وانعدام الممكن للفلسطيني، مرجعه هذا الصمود الفلسطيني فحسب، وتجدد الوعي الفلسطيني بالصراع حقيقة ومعنى.
ثمَّ مؤشرات قبل الوصول لتخوم هذه المواجهة على أنّ الاحتلال تعمّد اغتيال الأسير الفلسطيني خضر عدنان، مستخفيًا بإضراب الأسير عن الطعام.
أراد الاحتلال هذه المرّة تغييب شخص عالي الحركة في الميدان، وأن يبطل نتائج الإضراب الفردي عن الطعام التي ينتهجها بعض الأسرى الفلسطينيين.
الشاهد هنا، أنّ الاحتلال، أمام فهمه للصراع واحتياجاته الأمنية، لا يقيم أيّ وزن لسلوك من شأنه، كما يتوهّم بعض العرب والفلسطينيين، أن يحرجه في العالم، تمامًا كما بادر أمس إلى قصف غزة دون وجود مقدمات راهنة يتذرّع بها لتغطية قصفه، واستهدف عائلة كاملة، في حين أنّ بعض العرب والفلسطينيين كانوا يدعون المقاومة لإرجاء فعل مقاوم لمنح التمزق الصهيوني الداخلي فرصته للاكتمال.
ها هو العدو بعد خمسة وسبعين عامًا على النكبة، يبيد عائلات، ويقصف بيوتًا، ويغتال أسرى في السجون، ويقتحم المدن، ويدفع لتكريس ما يسميه "السيادة على القدس"، ويجمع كلّ ما يمكن من جيش وأجهزة وعقل إستراتيجي للتحايل على مقاومة محصورة في شريط ضيق مكشوف بعتاد محدود، الكثير منه أملت الحاجة والحصار والخذلان إبداعه ذاتيًا.
إزاء ذلك كلّه، وفي ذكرى النكبة التي يجدّد الاحتلال معناها بالضبط، بعدوانه الأخير على غزّة، ما المطلوب من الفلسطيني سوى التيقظ الكامل؟ ليس التيقظ الكامل تجاه نوايا العدوّ فحسب، بل التيقظ الكامل في حراسة الأصالة التي تعنيها النكبة للقضية، هذه الأصالة التي لم يشوّه ملامحها إلا الغفلة عن طبيعة العدوّ وحقيقة الصراع، تشويه يأتي دائمًا في صورة الاعتقاد أننا لم نفعل كفاية لطرح المبادرات اللازمة لإقناع العدوّ أو لاستعطاف الغرب، بالرغم من كلّ ما طرح منذ بدايات الصراع إلى اليوم، وبالرغم من سلوك العدوّ الذي لا ينتظر مبادرات العرب والفلسطينيين إلا لـ"حلبهم أكثر" ودفعهم أعمق وأطول في متاهات الغفلة، في حين هو من جهته يؤكد طبعه القديم الأصلي، كما فعل اليوم، ليذكّر من غفل إن كان يتذكر.