إنه أمير، هكذا سمّاه ذووهم؛ ليكونَ اسمًا على مسمى، فهو أمير وفارس أحلامِ (صفاء) تلك الفتاة الفلسطينية التي لم تتجاوز الخامسة والعشرين ربيعًا، والتي لم تُفارق ماكينة غسيل الكلى في مجمع الشفاء الطبي في غزة منذ نصفِ عقدٍ من الزمن.
أمير براش الشابُ المُعافى في صحته والأهم في تفكيره؛ آثرَ أن يرتبطَ بصفاء، بعد أن دقَ قلبه لها في قسم غسيل الكلية الصناعية في أكبر مشافي القطاع المحاصر(الشفاء) لينسجَ بارتباطه صورةً مشرقةً عن المشفى، غير صورةِ نقصِ الأدويةِ ونفاد المستلزمات الطبية وتهالكها، جراء الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، إذ نجح في أن يُعطي مكان الشفاء إشراقةً وهبها من أعماقِ قلبه الصادق؛ ليُذاع صيت إشهار زفافه في المدينة المحاصرة؛ وليُصبح بصنعه الجميل أشهر من النار على العلم..!
فلم يكتفِ الشاب بإعلانِ ولائه وحبه الصادق لصفاء التي هي في نظرِ كثيرين إنسانة(مريضة) لا يحقُ لها أن تتزوج وتنجب وتؤسس أسرة، رغم أنها فتاة مثقفة وخريجة جامعية، بل واصل وفاءه لها بعزمه على التبرع بإحدى كليتيه لصالح محبوبته وشريكة حياته، رافضًا أن يتخلى عنها، بل مُصرًا على أن يبقى إلى جانبها حتى الرمق الأخير..!
قصةُ حبٍ تُولد في غزة وتنمو في مكانٍ ليس ورديًا على الإطلاق، بل في مكانٍ كان ولا يزال رمزًا ومعقلاً لكل الأنات والأوجاعِ، وعنوانًا من عناوين الموت الذي يُهاجم أجساد أبرياء محاصرين بحاجةٍ إلى الدواء والعلاج..!
وكأن التمردَ يبدأ أيضًا بالحب، وكأن أهل المدينة المحاصرة يُقاومون الاحتلال وأزماتهم بالحب، وكأن لديهم هدفًا أسمى وأنبلَ من كلِ أهدافِ العالمين، أن يُحولوا أماكنهم القاتمة الرمادية إلى ألوان قوسِ قزح التي تشعُ سعادةً ومحبة، كأنهم يقولون لكلِ الدنيا المرضُ ليس جريمة ليُعاقبنا عليها العالم، ويسجننا داخل أسرةٍ مهترئةٍ لا ترأفُ بحالنا، سنؤازرُ بعضنا ونحاربُ ضعفنا بالحب، وسنقيمُ كل جدارٍ بداخلِ أحبابنا يُوشكُ أن ينقضَ أيضًا بالحب.
تُحدثنا غزة عبر نجميها الحبيبين (أمير وصفاء) عن ثقافة الحبِ المستمدة من العقيدة الإسلامية الراسخة، لتُعززَ في قلوبنا نبضاتٍ صادقةٍ لا تحكيها كل الأفلام والمسلسلات أيًا كان نوعُ وشكلُ وجنسيةُ إنتاجها تركية أو هندية أو هولندية.. إلخ، وتشرحُ لنا بالأفعالِ لا بالتمثيلِ صدق الحكايا التي لا تعترفُ إلا بأن من أرادَ شيئًا بهمته يلقاه ولو حاربته جيوش الجن والإنس ومعها جيوشُ العالم كله بما فيها ذلك الجيش الذي يدعي بأنه لا يُقهر..!
فتلك رسالة الأمين محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يرَ للمتحابين سوى النكاح، والحبُ لا يعترفُ بفارق عمرٍ ولا بسنٍ ولا بصحةٍ ولا بمرض..!
(مجمع الشفاء) ومن لا يعرفه في العالم؟ المجمعُ الذي يتصدرُ كل عناوين الأخبار العالمية مع بدايةِ ونهاية كل عدوانٍ إسرائيليٍ يُشنُ ضد قطاع غزة، هو ذاته اليوم الذي يتصدرُ في غزة عنوان المحبة والوفاء والانسجام..!
وهل بعدَ حبِ المحاصرين في غزة حب؟ فإلى أولئك الذين يقولون بأن أهلها فاقدون للمشاعر الإنسانية، أنصحكم بزيارتها والتجولِ بين أزقتها وحاراتها، ستجدون ألفَ عبلةٍ فيها وألف عنترة، ستجدون كثيرين على شاكلةِ قيس وليلى، وجميلة وبثينة، ستجدون أيضًا أمثال أمير وصفاء، غزة الولودة الودودة ولاّدة بالحبِ والحيوية، تُغدقُ على العالم بأسره كل تعاليم الجمال، تُوزعها بصدقِ تجربتها بالمجان، فإن سألتُم يومًا عن الوفاء تُجيبكم أم الشهيد علاء مرتجى من حي الزيتون وقد بُترتُ قدمها خلال حرب عام ألفين وثمانية التي شنها الاحتلال الإسرائيلي ضد القطاع؛ فيما بقيتْ رغم إعاقتها تصنعُ الحبُ لزوجها، يشهدُ على جمال قلبيهما بحرُ غزة وكأسُ الشاي وفنجانُ القهوة، ورغم كلِ ما سبقَ من عذوبةِ المعاني عند أهلِ غزة؛ فإن أهمية التشديد تقتضي بأنَ فيها أيضًا رجال أوفياء لنسائهم وإن ساقتهم أقدارهم لنكاحِ مثنى وثلاث ورباع؛ فما كان الاكتفاء بواحدة يومًا دليل الوفاء والحب، وما كان التعددُ يومًا دليل الخيانة والجحود، هي غزة بكلِ حالاتِ رجالها ونسائها أجمل بقعةٍ في العالم، هكذا أراها بعيني وهكذا يراها أحبابها على الأقل..!