كان البيتُ مليئًا على غير العادة بأناس يقفون على مداخله، وآخرون يجلسون على كراسٍ بالداخل، يبحث الطفل محمد (9 أعوام) بين تلك الوجوه عن أمه إيمان عودة (26 عامًا) التي زارت مدرسته قبل ساعاتٍ، يسأل: "وين أمي؟!".
الجميع تهرَّب من الإجابة قبل أن يواجههم هو بالخبر الذي نقله له أحد أطفال الحي على براءته: "أمك قتلها الجيش"، يسأل ويجيب بنفسه: "الجنود قتلوا أمي؟! صح"، وغادر الطفل مع العائلة نحو المسجد قبل انطلاق جثمان تشييعها ببلدة حوارة جنوبي نابلس شمال الضفة الغربية، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة التي لم يستوعبها.
وقف محمد أمام جثمان أمه الذي يغطيه علم فلسطين، مصدومًا يكتم حزنه على رحيلها، في مشهد خلا من البكاء واحتبس الكلام في مخارجه لطفلٍ لم يستوعب أن التي أغنته عن العالم هي التي يحتضنها الكفن الآن، وهو يلقي عليها نظرة الوداع، وقبل ساعاتٍ كانت تضج بالحياة عندما زارته في المدرسة ورافقها في التنقل بين الصفوف الدراسية وهي تسأل المعلمات عنه، وتتعهد لهن أن تزيد من اهتمامها به، فكانت لا تقبل منه سوى أعلى الدرجات.
صباح الخميس الموافق 4 مايو/ أيار الجاري، استيقظتْ "إيمان" كما في كل صباحٍ، رتبت بيتها، وأطعمت أصغر أطفالها صخر (عامان) وتفقدت ابنها عبد الرحمن (4 أعوام) وهو من ذوي الإعاقة، وأرسلت طفلها محمد لمدرسته التي لا تبعد سوى مسافة مسير ثماني دقائق، تحفه دعواتها عند باب البيت.
بعد ساعات ذهبت إيمان لمدرسة ابنها محمد الذي يدرس بالصف الثالث الابتدائي لتفقده والاطمئنان على تحصيله الدراسي، مرورًا عبر حاجز "حوّارة" الاحتلالي من أمام عيون ونظر ضباط جيش الاحتلال.
وفي أثناء عودتها بخطواتٍ متسارعة تحاول إدراك الوقت والعودة لمنزلها حتى لا تتأخر عن طفليها اللذين تركتهما عند والدة زوجها، باغتتها أربع رصاصات أطلقها جنود الاحتلال سكنت قلبها، نُقلت في إثرها للمشفى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وارتقت شهيدةً.
قتلٌ بدم بارد
"كانت توصي المعلمات الاعتناء به وتقول لهم: "سأهتم به ليكون من المتفوقين أكثر"، وهذا ينفي ادعاء جيش الاحتلال بأنها أرادت تنفيذ عملية طعن، ويؤكد أن ما حدث جريمة إعدام بدم بارد، ربما كانت في عجلة من أمرها أو ارتبكت عند المرور بالحاجز فقاموا بإعدامها"، بكلمات مليئة بالصدمة والحزن يروي شقيقها عبد الرحمن لصحيفة "فلسطين" التفاصيل.
عانت "إيمان" كثيرًا في تربية أبنائها، فكانت تسهر على الاهتمام بابنها البكر محمد في حفظ القرآن والدراسة وكان حلمها الكبير، ومما زاد مسؤوليتها مرض ابنها عبد الرحمن المصاب بتشنجات (كهرباء بالدماغ)، إذ كانت دائمًا تمكث فيه في مستشفيات القدس لمدة أسبوعين بين الفينة والأخرى، وكان طفلها صخر (عامان) متعلقًا بها.
يعلق عبد الرحمن بقهر: "تعبت على تربية أبنائها فمستحيل أن تتركهم كما يدعي الاحتلال... وأكثر ما آلمني عندما طلبتُ من طفلها محمد أن يقبل جثمان أمه، فوقف مصدومًا ولم ينطق بأي كلمة".
اقرأ أيضاً: بالفيديو تشييع حاشد لجثمان الشهيدة إيمان عودة في حوارة
قبل يوم من استشهادها كان آخر حديثها مع شقيقها، يطلُ صوتها المبتسم من الذاكرة: "كانت سعيدة خاصة أنها بدأت تتدرب في صالون نسائي، ترسم لنفسها أحلامًا مستقبلية جديدة، حتى أنها خرجت مع صديقاتها في رحلة ترفيهية لمدينة جنين، وهي منذ شهر عاشت أجواء جميلة في رمضان والعيد الذي أهديتها فيه هاتفًا محمولاً طلبته".
سفر تغير مساره
لا تزال الصدمة تجثم على صوت عبد الرحمن: "أختي متعلقة بأولادها وضحت كثيرًا لأجل أبنائها، وجنود جيش الاحتلال في حوارة لا يتركون أحدًا يمر بدون تفتيشه. البلدة محاصرة والمحال التجارية مغلقة وينغصون علينا حياتنا".
أمام صعوبة الظروف كان يرتب شقيقها إجراءات سفره إلى أمريكا عند أخواله، وخطط لاصطحاب "إيمان" معه يقول: "قبل يوم من استشهادها بدأتُ بالإجراءات، وقالت لي: "ياريت تاخدني معك" ووعدتها بذلك لأني كنت أحضر لها كل شيءٍ تطلبه".
لم تشغلها التزاماتها العائلية ورعاية أولادها عن هموم الوطن، فكانت تذهب بين الفينة والأخرى لإعمار المسجد الأقصى بالصلاة فيه تؤكد على حبها لفلسطين، "إيمان تحافظ على صلاتها، كانت قريبة كثيرًا مني ولدرجة هذا القرب ولشدة حبها لي ولأمها وعائلتها، أسمت ابنها على اسمي (عبد الرحمن) وقالت يوم ولادتها ممازحةً: "بركن يطلع حلو مثل خاله" قالها بصوتٍ يثقله الفقد.
"سندي وقوتي وضلعي الثابت، واليد التي لا تخذلني أبدًا، أمي يا نبض القلب والروح" هذا أحد المنشورات على صفحتها على موقع "فيس بوك" تعبر فيه إيمان عن حبها لعائلتها وارتباطها بالحياة، في لحظةٍ كانت ترتب للسفر وتخرج في رحلات ترفيهية وتستعد للسهر مع طفلها محمد في امتحاناته الدراسية، شق قلبها 4 رصاصات إسرائيلية وقتلت كل أحلامها، ففي لحظة غيّر جنود الاحتلال مسار سفرها.