الشهيد السابع والثلاثون بعد المئتين، من شهداء الحركة الأسيرة، منذ حزيران/ يونيو 1967، هو الشيخ خضر عدنان، الذي ارتقى في إضراب عن الطعام في الثاني من أيار/ مايو 2023. الشهيد هنا ليس رقمًا، ولكنّ للرقم دلالة.
بهذا الاعتبار، سيكون ثمّة دلالات أخرى لأرقام أخرى، منها أنّه الشهيد الخامس في إضراب عن الطعام منذ عام 1980، وآخر الشهداء المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال كان في عام 1992، كذلك هو الشهيد الخامس والستون ممن ارتقوا في ظرف من الإهمال الطبي منذ نيسان/ أبريل 1968، والشهيد السابق بالإهمال الطبي كان في كانون الأول/ ديسمبر 2022، وليس أخيرًا، فهذا الإضراب الرابع في التاريخ الشخصي للشيخ خضر عدنان، والذي طال حتى 86 يومًا، وبهذا يكون الشيخ خضر عدنان أوّل شهداء الإضرابات الفردية، فالذين سبقوه ارتقوا في إضرابات جماعية.
الدلالات تتحدث عن الاستمرار التاريخي لنضال الحركة الأسيرة، في مقابل سياسة استعمارية ثابتة، تهدف إلى تحطيم الحالة النضالية، واستنزاف كوادرها وتغييبهم بالاعتقال المستمرّ، وتحويل السجون، لا إلى أدوات قهر وعقاب فقط، بل إلى أدوات تدمير ممنهج؛ للحركة الوطنية والمجتمع الفلسطيني والكوادر التي تستهدف بالاعتقال المركّز.
يقابل ذلك بالضرورة بمعاندة نضالية من الحركة الأسيرة نفسها، التي لا تهدف بنضالها إلى تحسين شروط الاعتقال فحسب، للكسر من سياسات القهر، ولكنّها أيضًا تناضل ضدّ الانكسار، ضدّ الانكسار العامّ، وضدّ الانكسار الفردي، وضدّ انكسار المشروع الذي بالضرورة سيظلّ يحارب بالاعتقال.
يتحوّل المقاتل، المناضل، الكادر التنظيمي، إلى أسير، وبينما يسعى الاحتلال، بالأسر، إلى تجريده ممّا كان عليه قبل أسره، ويسعى بذلك إلى تحطيم الإرادة النضالية من خلفه، فإنّ هذا الأسير، يقاتل بعد اعتقاله ليبقى مقاتلًا ومناضلًا وكادرًا تنظيميًّا، حماية لروحه التي تجسّدت في المعنى الذي كان ولا بدّ سيدخل به التجربة الاعتقالية. سيكون الاعتقال، والحالة هذه، اختبارًا لصدق الإيمان بذلك المعنى، ثمّ عزيمة الاحتفاظ بذلك الإيمان، بنحو ما؛ يدافع الأسير هنا عن حياته، ولو بالأداة التي تدفع به نحو تخوم الموت/ الشهادة، أي بالإضراب عن الطعام، لأنّ الحياة بهذا الاعتبار ليست زمن البقاء الدنيوي، وإنما المعنى المقصود حين البقاء الدنيوي. المعنى للآلاف، ممن انسلكوا في المسيرة النضالية، هو النضال بتمثّلاته وتجلّياته، والمعنى من هذه الجهة هو فرديّ صرف، يعيه الأسير وعيًا ضمنيًّا لا يحتاج تحفيزًا لاستظهاره، كما لا يحتاج أصلًا لتعبئة لاكتشافه أو اصطناعه، فهو موجود، ولأجله يقاتل هذا الأسير.
حينما يقاتل الأسير، الفرد، ليحافظ على صفته قبل اعتقاله، مقاتلًا ومناضلًا وكادرًا تنظيميًّا، هو يدافع إذن عن حياته، من حيث التشبّث بمعناها. ليس القصد هنا حصرًا في الإضراب الفردي، فالنضالات الجماعية، وأشكال التنظيم والتأطير للوجود الجماعي داخل السجون، هو انتظام لهذا الوعي الفرديّ، كذلك فالوعي بالحقيقة الاستعمارية الصهيونية هو وعي فرديّ ابتداء، يعانيه الفلسطيني مباشرة، ليكون الانتظام في الجماعة وسيلة التحقّق الذاتي لهذا الوعي الفرديّ، والإجابة العملية عن سؤال الواجب، لتصير الجماعة في المقابل واحدة من ضمانات تعزيز الوعي الفرديّ وتجديده، وهو ما ينتقل إلى داخل المعتقل، في هذا النمط المتداخل من حاجة الفرد للجماعة، وانتظام الجماعة من الأفراد، لتنعكس صورة من الخارج إلى داخل المعتقل بفرض نمط من الحضور المنظّم، الذي لا يهدف فقط إلى تأطير الحياة الاعتقالية بأقلّ قدر من المشكلات التي لا بدّ وأن تنجم عن تناقضات طبيعية بين الناس، ولكن أيضًا إلى استمرار صورة في الداخل عمّا في الخارج، فتفكيك الجماعة إرادة استعمارية، والاحتفاظ بها فلسطينيًّا في كلّ مكان إرادة نضال مقابلة.
تأتي الإضرابات الفردية عن الطعام في السنوات الأخيرة، دالّة بدورها، على استمرار صور الصراع، والتحوّلات النضالية أثناءه، ومن ذلك الزيادة في الحضور للنضال المقترب من الطبيعة الفردية الصرفة. قد يكون لافتًا أن العديد من أعمال المقاومة المؤثّرة، في السنوات الأخيرة خارج السجن، كانت فردية، أو بتعبير أدقّ بدوافع ذاتيّة، في حين أنّه قد ظهر عدد من المناضلين في المعتقلات، الذين بادروا إلى الإضراب الفردي عن الطعام، في محاولة منهم لكسر استهدافهم المكثّف والمركّز بالاعتقال، أو لوضع حدّ لاعتقالهم الإداري.
لم تكن الإضرابات الفردية بديلًا عن الإضرابات الجماعية. خاض المعتقلون الإداريون عددًا من الإضرابات الجماعية في محاولة لإنهاء أو تحجيم، هذه السياسة الاعتقالية التي تستهدف بالدرجة الأولى الكوادر الأكثر فاعلية وحضورًا، أو الأقدر على خلق التحولات، كما خاضت الحركة الأسيرة في عمومها إضرابات جماعية كثيرة، كانت تتأهّب لخوض واحدة منها أخيرًا. بيد أنه، وإزاء عدم القدرة على تنظيم الاعتقالات الجماعية على طول الوقت المفتوح، إذ هو أمر مستحيل من كلّ وجه، أخذ بعض المناضلين على عاتقهم زمام المبادرة، لكسر استهداف الاحتلال لهم، وهو الأمر الذي من ناحية أخرى، من شأنه أن يضيء على قضايا اعتقالية عامّة، كقضية الاعتقال الإداري، أو أن يعزّز الشارع بدوافع أخرى للحركة.
بالتأكيد، رافق الإضراب الفردي نقاشات ضرورية، حول الجدوى والصوابية، وتآكل الآثار المرجوّة من الإضراب، بيد أنّ هذه النقاشات لا يمكن أن تتّجه نحو القصدية، والبعد النضالي والتحرّري والأخلاقي لهذه الإضرابات، التي تحوّلت إلى مجلى للإرادة والعزيمة في مواجهة سياسات الاحتلال، وإلى تعويض في أوقات معينة عن ضعف الإمكانات والظروف الجماعية.
ينبغي أن يحيل ذلك إلى قضيتين أساسيتين؛ الأولى، متصلة باختبار الاعتقال، من حيث فحص صدقية الإيمان بالمعنى المستفاد من النضال، الذي يتحوّل لدى المناضل إلى الحياة ذاتها. الأسير الذي ينتزع حريته باستمرار، ثمّ يعود لدوره النضالي وكأنه لم يعتقل من قبل، أو كأنه لم يخض تجربة الجوع المرير لكسر إرادة المنظومة الاستعمارية برمّتها، هو المثال الأكثر وضوحًا على استمرار المثل والنموذج في الفلسطينيين، مثل الإيمان الكامل والصلب بذلك المعنى، وهذا ما مثّله خضر عدنان باقتدار، بإضراباته المتعدّدة، وعودته لمواقعه، وانحيازه للمواقع والميادين الصحيحة في ساحة الضفّة الغربية في عدد من المراحل والمحطّات والمواقف والأحداث، سواء في الاصطفافات الداخلية، أم في مواجهة العدوّ. ومن ثمّ فقد غيّبه العدوّ قصدًا بقدر ما انتهى به إضرابه إلى الشهادة.
والثانية، متعلقة بالتداخل بين نضال الحركة الأسيرة، وحركة الشارع في الخارج. ظلّت هذه العلاقة تداخلية، تذكي الحركة الأسيرة روح الشارع، ويسند الشارع النضال المطلبيّ للحركة الأسيرة. مثلًا، آخر المواجهات الدامية، التي شهدتُها في مدينة رام الله، قبل أن تدخلها السلطة الفلسطينية، كانت إسنادًا لإضراب للحركة الأسيرة، سُمّي في حينه "معركة الأمعاء الخاوية"، كانت المواجهات في ذلك العام، 1995، ملحمية بالفعل، ولمّا اعتقلت في الأثناء وشاهدت الجنود الجرحى في مقرّاتهم، فقط بفضل حجارة الشبان، أدركت حقيقة تلك البسالة التي منحت الحجر هذه الفاعلية في مواجهة كلّ ما أمكن للجندي الاحتماء به.
هذه المشهدية، وفي مثل هذا السياق، لم تتكرّر بعد ذلك. السبب واضح والإجابة واضحة، فسلطة في ظلّ الاحتلال، تصادر بالضرورة العديد من أدوات النضال الممكنة، هذا فضلًا عن أي سياسات مقصودة أم غير مقصودة، تذوّب دائمًا إرادة النضال وممكناته عند الجماهير. والنقد الجدّي ينبغي أن يتركّز هنا وحسب!