فستان أطفال أهداه لطفلته "زينة"، وثوب صلاة حاكه لها من داخل السجون، وقميص شبابي صنعه لابنه "يوسف"، قطع من الملابس معلقة على جدار معرض "نتنفس حرية" بمدينة غزة تعود للأسير ماجد أبو القمبز من سكان منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة الذي اعتقل عام 2006، ويقضي حكمًا بالسجن 19 عامًا.
بقيت تلك المقتنيات شاهدة على ذكريات وسنوات طويلة مرت، في حين ما يزال أبو القمبز ينتظر لحظة الإفراج عنه من سجون الاحتلال للقاء عائلته وأبنائه اللَّذين تركهما أطفالًا.
كبرت زينة التي تركها والدها وهي بعمر عام، وأصبحت بعمر (17 عامًا) ويوسف الذي كان جنينًا في بطن أمه أصبح بعمر (16 عامًا)، أهداه والده قميصًا خرج من السجون قبل شهر، فبالرغم من أن الاحتلال يمنع والدة الأسير ونجلَيه من زيارته منذ 2016، إلا أنه ما يزال يستطيع حياكة ملابس تناسب مقاسات قاماتهم بالرغم من غياب ملامحهما عنه من جراء منع الزيارة.
لم يرسم الأسير السعادة على وجهي ابنَيه خارج السجن بتلك الملابس فقط، فبواسطة إبرة وخيط صنع من اللاشيء أشياء جميلة داخل السجون أدخلت البهجة والفرح على قلوب الأسرى، وصنعت لحظاتٍ سعادة أوقدت شموع الفرح في عتمة السجون.
خياط السعادة
"لم يكن يصنع هذه الأشياء قبل الأسر، لكن بعد أسره في أثناء اجتياح الاحتلال لمنطقتنا بحي الشجاعية، رفض الجلوس بين أربعة جدران، بل كان يستغل معظم وقته في الدراسة والحصول على إجازة التلاوة والتجويد، ثم حياكة الملابس فكان خياط السجن، وتفنن في إعداد الحلوى" بكلمات يملؤها الشوق والحنين تستهل والدته حديثها لصحيفة "فلسطين".
كان أبو القمبز يحرص على إيجاد أي وسيلة يدخل فيها الفرح على قلبَي ابنيه، وفي الوقت نفسه يحافظ على التواصل بينهما، فكانت الملابس الشيء الذي جمع بين الأب والأولاد، "كانت هذه الملابس رسائل أنه لم ينساهم" تقول أمه.
فستان لطفلته زينة وثوب صلاة هو أول شيء صممه الأسير أبو القمبز، تعلّق أمه: "كان يريد أن يشعر بالأبوة وأن يتواصل مع طفليه، فصمم الفستان وثوب الصلاة، وكانت حفيدتي ترتديهما وتصلي وتدعو المولى عز وجل أن يفرج عن والدها، ثم تطور وكان يصنع المقتنيات والملابس من لا شيء، من غطاء سرير أو فرشة أو واجهة ملاءة، الجميع يستغرب من قدرته على حياكة الملابس بإبرة وخيط بالرغم من عدم وجود ماكينة".
تحتفظ والدته بكل المقتنيات التي أرسلها ابنها لطفليَه على مدار مراحل عمرهما، مرحلة واكبت كل تفاصيلها: "كنت أحتفظ بكل شيء يرسله، وفي مرات المنع كنت أصف له مقاس قامتهما، فبالرغم من أننا منعنا من زيارته منذ سبع سنوات، إلا أنه استطاع تصميم قميص لابنِه يوسف بدقة كبيرة".
"المخيطة مغلقة" هذا ما كان يكتبه على باب غرفته داخل القسم بسجن النقب، عندما يريد الأسرى تهنئة أحدهم بالإفراج عنه وتنظيم احتفال وداع بسيط له، فكان يخصص وقته لإعداد الحلوى، وهذه أيضًا يصنعها من العدم، إذ تتشابه أسماء الحلوى عن نظيرتها في الخارج، لكن مكوناتها تختلف حسب ما يتوفر داخل السجن.
وأكثر ما يدهشها كما غيرها من الناس، أنه "بإبرة وخيط يصنع ملابس وربطات عنق وقفازات وقوالب أقراص فلافل، وكلها كان يصنعها من العدم، واللافت أن غرزته في الخياطة تضاهي ما تفعله ماكينات الخياطة، ما يدلل أنه كان يمضي وقتًا طويلًا في إعداد تلك المقتنيات".
عودة للتربية
ساعدت هذه المسنة في تربية طفلي أبو القمبز، في المقابل كان والدهما يتوق لرؤيتهما واحتضانِهما، لم يبرد شوقه بكل الزيارات التي حاولت والدته وصف ملامحهما له، وظل الشوق يغلبه خمس سنوات حتى سمح الاحتلال لهما بزيارة والدهما.
من ذاكرة ما تزال تحتفظ بتفاصيل الزيارة الأولى، تطل على الحدث: "عندما أخذتُهما كانا يسألان طوال الطريق بشوق: "وين بابا، قربنا ولالا، وين السجن؟"، لم يناما ليلتها، حتى توقفت الحافلة عند السجن، وأرادا النزول مباشرة، لكنهما تعرَّفا على أول معاناة لأهل الأسير بالانتظار للتفتيش قبل الدخول على ممر يفصل بين شبابيك حديدية وألواح زجاجية".
تقفز أمامها ردة فعله عندما رأى طفليه: "كان يتحدث بلهفة يومها سمحوا لطفليه بالدخول عنده، لا يصدق أنهما بحضنه، ويقول لي: "هي زينة ويوسف" وكأنه في حلم بعدما رآهما قد كبرا وأصبحا وسيمين، حتى أنه لم ينم ليلته داخل السجن، وكلف أحد الأسرى بالإنابة عنه في رفع الآذان داخل السجن، من هول الصدمة والفرح".
بصوت مليء بذكريات وحنين للحظة عناق خارج الأسر، تتوقف عند آخر زيارة له قبل المنع في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016: "يومها كانا طفلين صغيرين، وأرادا الدخول عند والدهما، لكن السجانين رفضوا، حاولت الحديث معهم، لكن الأسير ماجد طلب مني التوقف عن ذلك وقال: "ما تروحي تترجيهم" بالرغم من شوقه الكبير لعناقهم".
كانت الزيارة الشيء الوحيد الذي يبرد قلب أمه، حينما تراه بين الفينة والأخرى، وعندما تعود للبيت ويتجمع حولها أبناؤها وأقاربها، وتبدأ بسرد ما حملته في قلبها وذاكرتها التي أرهقها العمر من تفاصيل وسلام أوصله ابنها لعائلته، "حرمونا من الشيء الوحيد اللي كان يهون علينا مرارة البعد"، كلمات غادرت قلبها المكلوم.
تعد والدته الفترة المتبقية لحكم ابنها والبالغة عامين وأربعة أشهر يومًا بيوم، حتى أرهقها العد والانتظار، تتمنى أن تصحو في يوم وتراه أمامها، يغلب الحزن صوتها وملامحها: "هذه هي فرحة العمر، عندما يقولون لي: "جاء العيد"، أقول لهم: العيد لأصحابه، شو يعمل العيد على مفارق أحبابه" فلا يوجد أصعب من فرقة الأولاد، خاصة أن ابني ماجد كان يصنع أجواء في المناسبات، وفي الأعياد ورمضان ما زلنا نفتقد غيابه".