فتحت زيارة وفد حماس للسعودية صفحة جديدة للعلاقة بين الطرفين بعد سنوات من القطيعة، والسلوك السلبي السعودي تجاه حماس، حملت الزيارة -وإن كانت تحت عنوان "أداء العمرة"- دلائل إيجابية في ضوء الحفاوة والترحيب الذي لقيه قادة حماس الكبار إسماعيل هنية وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق وخليل الحية وزاهر جبارين، لأول مرة منذ نحو ثماني سنوات (2015).
ويظهر أن هذه الزيارة يمكن أن تُفهم في إطار إعادة التموضع الذي تشهده السعودية، خصوصًا في الأشهر الماضية؛ وهو تموضع مبني على قراءة أكثر احترافية وموضوعية للتطورات والمعطيات الإقليمية والدولية، إذ تدرك السعودية حالة تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة، وازدياد تركيز اهتماماتها على شاطئ المحيط الهادي، وعدم جديتها الكافية في حماية مصالح حلفائها وأمنهم في الشرق الأوسط. كما تدرك الصعود الصيني، واتجاه العالم تدريجيًا نحو منظومة متعددة القطبية، ورغبة قوى عالمية مثل روسيا والهند في تثبيت مكانتها الدولية، والانعتاق من هيمنة "الدولار" في الاقتصاد الدولي. كما تدرك السعودية صعوبة حل مشاكلها الإقليمية دون التفاهم مع القوى الإقليمية نفسها مثل إيران وتركيا؛ وأن أمن السعودية والخروج من المأزق اليمني بحاجة إلى هكذا تفاهمات.
من ناحية ثانية فإن فشل مسار التسوية السلمية، والرفض الإسرائيلي والأمريكي المستمر للمبادرة السعودية للسلام (مبادرة الأمير/ الملك عبد الله 2002)، ورغبة الكيان الصهيوني في التطبيع مع البلاد العربية دون دفع أي أثمان لمسار التسوية، إضافة إلى أن الطرف الصهيوني أثبت أنه لا يصلح شريكًا يُعتمد عليه في أمن المنطقة، وأن أجندته العنصرية والعدوانية تُعمق الرفض الشعبي له، وتجعله عبئًا ثقيلًا على أي علاقة رسمية، ثم إن تحول هذا الكيان إلى مزيد من التطرف الديني والقومي، وتشكيل حكومة هي الأكثر تطرفًا في تاريخه، والسعي لحسم مستقبل المسجد الأقصى والقدس والمقدسات لصالحه، كل ذلك يجعل الطرف السعودي أكثر تحفظًا تجاه أي علاقة محتملة مع الكيان؛ وأكثر رغبة في الانفتاح على القوى الفلسطينية الفاعلة.
ولعل السعودي، من ناحية ثالثة، لاحظت أن القطيعة مع حماس واعتقال كوادرها في السعودية ومحاولة تجفيف ينابيع الدعم الشعبي لها، لم تنعكس سلبيًا على شعبية حماس فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا، وأن حماس ما زالت تتصدر استطلاعات الرأي العام الفلسطيني، وتحظى بقبول وتأييد شعبي كبير في العالم العربي والإسلامي، وهي شعبية تتزايد مع عملها وأدائها العسكري المقاوم على الأرض، وليس بالتجاوب مع مسارات التسوية وغيرها.
ولعل السعودية لاحظت أن حماس بسبب حصار عدد من الدول العربية لها صارت أكثر اعتمادًا على الدعم الإيراني، مع احتفاظها باستقلاليتها؛ وأن على السعودية وعلى البلدان العربية، إن كانت جادة في مواجهة أو تقليص النفوذ الإيراني، أن تكون أكثر انفتاحًا على حماس، وليس أكثر سلبية أو عدوانية.
ولذلك بات من الواضح بالنسبة للسعودية، والبلدان العربية، أنه لم يعد بالإمكان تجاهل حماس، خصوصًا وأنها ما زالت قوة صاعدة مرشحة لقيادة الشعب الفلسطيني، ووراثة الوضع البئيس المترهل الذي تمثله قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة الفلسطينية.
ثم إن حماس من ناحية رابعة، وبالرغم مما تعرضت له من ملاحقة واعتقالات وهجمات إعلامية من الجانب السعودي، تحمّلت الأذى، ولم تبادر بأي ردود أو هجمات إعلامية مضادة، ومالت للتهدئة، ما أسهم في تخفيف الاحتقان إلى حدّه الأدنى، وإلغاء مبررات العداء، وتسهيل العودة إلى العلاقات الطبيعية.
من ناحية خامسة فإن تفعيل العلاقات السعودية مع حماس، سيوفر بيئة أفضل لاستعادة السعودية دورها المهم ومكانتها في الملف الفلسطيني، وسيكون عودة طبيعية للسياسة السعودية التقليدية المنفتحة على القوى الفلسطينية المختلفة. كما سيوفر بيئة أفضل للدعم الشعبي والرسمي للشعب الفلسطيني وتخفيف معاناته، ليس فقط في الضفة الغربية، وإنما أيضًا في قطاع غزة المحاصر، وهذه السياسة تتوافق مع طبيعة الشعب السعودي، وتلقى ارتياحًا واسعًا في أوساطه، إذ إن القدس وفلسطين في قلب اهتماماته؛ وهو ما يخدم أيضًا صورة القيادة السعودية لدى شعبها.
ولا يظهر من ناحية سادسة، أن الانفتاح السعودي على حماس جاء أساسًا نتيجة ضغط إيراني أو قطري أو غيره، ولا يظهر كذلك أن موضوع إطلاق سراح السجناء المحسوبين على حماس في السعودية جاء أو سيأتي نتيجة ضغط من الحوثيين في اليمن؛ وإنما نتيجة حالة التموضع الجديد الذي ارتأته السعودية لنفسها نتيجة قراءتها الموضوعية لمجمل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية؛ والذي شمل مزيدًا من الانفتاح على الصين وروسيا، والاتفاق مع إيران، والانفتاح مع سوريا، ومع لبنان، ومحاولة تسهيل الوصول إلى حلٍّ سياسي في اليمن. ومثل هكذا سياسة، لا يمكن أن تتجاهل أهم وأكبر قضية في المنطقة، قضية فلسطين والفاعلين الكبار على الأرض.
وبالطبع فإن "الكُوَّة" التي فتحتها السعودية عبر هذه الزيارة من ناحية سابعة، يجب أن تُقرأ في إطارها وحجمها المحدود؛ ولا ينبغي عقد آمال كبيرة عليها قبل أن تنضج ظروف تطورها الطبيعي. ولعل الرسالة السعودية كانت واضحة، عبر استقبالها للرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل يومين من وصول وفد حماس.
السيناريوهات المحتملة:
نحن أمام ثلاثة سيناريوهات في المستقبل القريب والوسيط لعلاقة السعودية بحركة حماس:
الأول: الاتجاه نحو تخفيف الاحتقان وإنهاء التوتر ووقف الحملات الإعلامية، مع الإبقاء على علاقة شكلية متحفظة.
الثاني: الانفتاح المحسوب عبر تحسين العلاقات وتفعيلها عبر الأطر الأمنية السعودية، والعفو عن بقية معتقلي حماس، وتبني سياسات أكثر تفهّمًا للعمل المقاوم وأكثر نقدًا للسياسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني ومقاومته، وتجاه القدس والمقدسات والاستيطان؛ وأكثر تفهّمًا لشراكة حماس في العملية السياسية، وتخفيف معاناة قطاع غزة.
الثالث: إضافة إلى الإجراءات المشار إليها في السيناريو الثاني، تُطوّر العلاقات إلى المستوى السياسي بالتواصل المباشر المنفتح مع قيادة حماس، وغضّ الطَّرف أو السماح بحرية العمل لأنصار حماس في إطار العمل الخيري ودعم صمود الشعب الفلسطيني، ومحاولة التوسط الإيجابي بين فتح وحماس وباقي الفصائل لتحقيق المصالحة، وإعادة بناء المؤسسات الرسمية الفلسطينية، وتجميد عملية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
ولعل السيناريو الثاني هو الأقرب للتحقق، وهو الاتجاه نحو انفتاح حذر متدرج محسوب، يتناسب مع التموضع السعودي الجديد، ولكن دون أن يستعدي الأمريكان ودون أن يتسبّب بضغوط غربية، لا ترغب القيادة السعودية في التعرض لها في هذه المرحلة.