تواجه حكومة نتنياهو تحدّيات ضخمة ومتزامنة على الصعيدين الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي، لم يكن بمقدور رئيس الوزراء الإسرائيلي تشكيل حكومته الحالية، وبعد خمس جولات من انتخابات مبكّرة خلال ما يقرب من ثلاث سنوات، إلا عبر ائتلافٍ تشارك فيه الأحزاب والتيارات الصهيونية الدينية المتطرّفة.
ولأن نتنياهو يبدو شخصيا في حاجةٍ ماسّة إلى إدخال تعديلاتٍ جوهرية على النظام القضائي في (إسرائيل)، كي تساعده على التخلّص من ملاحقات قضائية تُحاصره عقب اتهاماتٍ وجّهت إليه بالفساد، فقد حرصت الأحزاب المتطرّفة على استغلال هذا الوضع أسوأ استغلال، خصوصا أن لها مصلحة واضحة في إدخال التعديلات نفسها، ولكن لتحقيق أهداف مختلفة.
صحيحٌ أنه ليس لدى هذه الأحزاب ما يمنع من مساعدة نتنياهو على الإفلات من الملاحقات القضائية التي تحاصره، لكنها تهدف إلى أمرين رئيسيين من تغيير النظام القضائي في (إسرائيل): إدخال تعديلات جوهرية على قوانين إسرائيلية كثيرة، خصوصا المتعلقة بالتعليم والخدمة العسكرية، بما يسمح بتهيئة المجتمع للابتعاد تدريجيا عن سماته العلمانية وإدارته وفق التعاليم والشرائع التوراتية أو التلمودية. وثانياً تكثيف عمليات الاستيطان والتهويد والإسراع بمعدلات إنجاز الخطط الموضوعة لتمكين (إسرائيل) من إكمال فرض سيطرتها التامة على كل أرض فلسطين التاريخية، والتخلص من الشعب الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الترحيل الجماعي والقتل والتشريد.
تجدر الإشارة إلى أن القيادات الإسرائيلية المتطرّفة، من أمثال بن غفير وسموتريتش، لم تشترط لقبول المشاركة في الائتلاف الحكومي الحالي تولي حقائب وزارية هامة في الحكومة فحسب، ولكن أيضا توسيع نطاق صلاحياتها ومسؤولياتها لتكون لها الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بإدارة الأراضي والشؤون الفلسطينية، ما أحال حكومة نتنياهو الحالية إلى رهينة في يد أكثر التيارات تطرّفا وعنصرية في تاريخ (إسرائيل). يضاف إلى ذلك أن إقدام هذه الحكومة على طرح مشروع القانون الذي يهدف إلى إدخال تعديلات جوهرية على النظام القضائي في (إسرائيل) على الكنيست، وبطريقة تكاد تُفقد السلطة القضائية كل ما تتمتع به حاليا من استقلالية، وتمكن السلطتين التنفيذية والتشريعية من التحكّم فيها والهيمنة عليها، أثار موجة غضب عارمة في (إسرائيل)، فما إن بدأت مناقشة هذا المشروع في الكنيست حتى خرج مئات آلاف من اليهود إلى التظاهر في الشوارع للتعبير عن رفضهم الكامل هذا المشروع، ثم دخلت مؤسسات المجتمع في إضراب مفتوح شلّ معظم نواحي الحياة الاقتصادية، وهدد كثيرون بالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية بوصفهم ضباط احتياط، ما أجبر نتنياهو، في نهاية المطاف، على تأجيل طرح هذا المشروع إلى ما بعد انتهاء الأعياد اليهودية.
على صعيد آخر، أدّى إصرار العناصر المتطرفة في الحكومة الإسرائيلية على تمرير خططها تجاه الفلسطينيين، خصوصا ما يتعلق منها بالاستيطان وهدم المنازل وتعقّب رجال المقاومة المسلحة واقتحامات المسجد الأقصى، إلى رفع منسوب التوتر في الأراضي المحتلة بدرجة كبيرة، جعلت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة تقترب من حافّة الانفجار. وتفيد الأرقام المتاحة أخيرا بأن أكثر من مائة شهيد فلسطيني وما يقرب من ألف جريح، من بينهم عشرات الأطفال والنساء، سقطوا ضحية العنف الإسرائيلي منذ بداية العام الحالي فقط، وأن عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد الأقصى في حراسة أجهزة الأمن الإسرائيلية تجاوز الخمسين ألفاً، بل وشارك في هذه الاقتحامات، بعد أن حرّضوا من أجل القيام بها، عشرات النواب من أعضاء الكنيست ووزراء عديدون، يتقدمهم بن غفير وسموتريتش. والاضطرابات الناجمة عن مشروع التعديلات القضائية، من ناحية، والزيادة غير المسبوقة في وتيرة العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، من ناحية أخرى، أدّتا إلى تشوية صورة (إسرائيل) في الخارج على نحو لم يسبق له مثيل، أو بالأحرى كشفتا عن الوجه الحقيقي والقبيح لـ(إسرائيل). كما أدّتا، في الوقت نفسه، إلى تعقيداتٍ لا يستهان بها في علاقة (إسرائيل) بأهم حلفائها الدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الخارجي، يواجه نتنياهو تحدّيات لا تقلّ ضخامة، ربما أخطرها الذي يمثله محور المقاومة بقيادة إيران، وهو محور يضمّ إلى جانب إيران كلا من سورية وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، خصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ولا جدال في أن (إسرائيل) ترى في هذا المحور شوكة حادّة في حلقها وعقبة كأداء تحول دون تمكينها من إعلان الانتصار النهائي للمشروع الصهيوني، خصوصا بعد تخلي معظم الأنظمة العربية الرسمية عن تقديم أي دعم حقيقي للقضية الفلسطينية. وتمثل إيران حالة خاصة ضمن هذا المحور، ليس لأنها تملك من الإمكانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية ما يؤهلها لقيادته فحسب، ولكن أيضا بسبب طموحاتها النووية التي تؤهلها لتحدّي احتكار (إسرائيل) السلاح النووي في المنطقة. ومعروف أن نتنياهو لا يزال يرى أن اكتمال حصول إيران على المعرفة العلمية والتكنولوجية التي تسمح لها بصنع القنبلة النووية يشكل تهديدا وجوديا لـ(إسرائيل)، ومن ثم يستحيل على الأخيرة أن تتعايش معه وعليها أن تعمل على مواجهته بكل الوسائل الممكنة، وهو ما يفسّر إصراره العنيد على محاولة إقناع الإدارة الأميركية الحالية بالتخلي عن رغبتها في العودة إلى اتفاق 2015 الخاص ببرنامج إيران النووي، بعد أن كان قد نجح في إقناع إدارة ترامب بالانسحاب منه. ولأنه يدرك يقينا أن الوقت يعمل لصالح إيران، وأن عدم عودة إدارة بايدن إلى هذا الاتفاق يعني تحلّل إيران من التزاماتها بموجبه ومنحها مزيدا من الوقت لزيادة معدّلات تخصيب اليورانيوم والوصول بالكميات المخزونة منه إلى المستوى الذي يمكّنها بالفعل من صنع القنبلة النووية حين تقرّر ذلك، يسعى نتنياهو جاهدا إلى إقناع إدارة بايدن بأن استخدام القوة المسلحة هو الخيار الوحيد المتاح لمنع إيران من الوصول إلى العتبة النووية، ويهدّد دائما بأن (إسرائيل) لن تتردّد في الذهاب إلى هذا الخيار منفردة، سواء سمحت لها الولايات المتحدة أو لم تسمح، وسواء اشتركت مع (إسرائيل) في تنفيذه أو أحجمت. ومع ذلك، من الواضح أن اللجوء إلى الخيار العسكرى لن يكون بالسهولة التي يتصوّرها نتنياهو، خصوصا أنه قد يؤدّي إلى تفجير حرب شاملة تشارك فيها كل مكوّنات محور المقاومة، ما سيضطر (إسرائيل) إلى خوض القتال بشكل متزامن على أربع جبهات، الإيرانية والسورية واللبنانية والفلسطينية.
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن حكومة نتنياهو تبدو محشورة بين ضغوط داخلية تهدّد بانفراط عقدها وسقوطها، وأخرى خارجية تهدّد بدخولها في حرب شاملة على جبهات عدة متزامنة، وهو ما يفسّر حالة الارتباك التي تعتريها.
ففي سياق إدارته الأزمة الداخلية، أقدم نتنياهو على إقالة وزير الجيش، يؤاف غالانت، ثم عدل عن ذلك، كما اضطرّ، في الوقت نفسه، إلى تأجيل عرض المقترحات الخاصة بتعديل النظام القضائي إلى ما بعد انتهاء الأعياد اليهودية، لكن التأجيل ليس حلا لهذه الأزمة. ولأنه يبدو مصمّما على تمرير التعديلات القضائية مهما كان الثمن، نظرا إلى وجود مصلحة شخصية له في ذلك، ليس من المستبعد أن تعود الحياة السياسية في (إسرائيل) إلى حالة الاضطراب التي كانت عليها، بمجرّد أن يعود الكنيست إلى مناقشة هذه المقترحات.
من ناحية أخرى، ليس من المتوقع أن تركن العناصر المتطرّفة داخل الحكومة الإسرائيلية إلى تهدئة الأوضاع مع الفلسطينيين، بل وقد يكون العكس هو الصحيح، ومن ثم من المرجّح أن يتصاعد التوتر في الأراضي المحتلة في الوقت الذي يكون فيه الشارع الإسرائيلي في حالة أقرب إلى الغليان.
وإذا حدث ذلك، ربما يلجا نتنياهو، في هذه الحالة، إلى تغذية هذا التصعيد والدفع في اتجاه زجّ الجيش في عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، أو ضد حزب الله في لبنان، أو ضد أهداف إيرانية في سورية، اعتقادا منه أن الشارع الإسرائيلي سوف يلتفّ تحت راية الوطن من جديد، ويعبّر عن وحدته في مواجهة الأخطار الخارجية، حقيقية كانت أو مفتعلة، غير أن حسابات نتنياهو قد تفلت منه هذه المرّة، خصوصا أن الشارع الإسرائيلي لم يعد يرتاح كثيرا لوجود العناصر المتطرّفة داخل حكومته الحالية، بل إن شعبية حزب الليكود نفسه بدأت تتآكل كثيرا في الآونة الأخيرة. إذ تفيد آخر استطلاعات للرأي بأنه قد لا يفوز بأكثر من 20 أو 22 مقعدا في الكنيست، إذا ما أجريت انتخاباتٌ مبكّرة جديدة الآن. أما إذا فشل في جرّ الحكومة الإسرائيلية الحالية لتفجير الأوضاع في المنطقة، هربا من أزمته الداخلية، وأصرّ، في الوقت نفسه، على تمرير التعديلات القضائية، فليس من المستبعد أن يثور الشارع الإسرائيلي من جديد. وفي هذه الحالة، الأرجح أن تؤدّي الضغوط الداخلية إلى تفكّك الائتلاف الحاكم في (إسرائيل) وسقوطه، واللجوء إلى انتخابات مبكّرة سادسة، أغلب الظن أن تؤدّي نتائجها إلى وضع حد لطموحات نتنياهو السياسية، وربما إلى زجّه في السجن.