التصعيد الإسرائيلي الأخير في القدس المحتلة والمسجد الأقصى، تم ردعه من الناحية العملية، واضطرت (إسرائيل) للتراجع عن سياسة منع الاعتكاف والتوقف عن الاعتداء اليومي الليلي على المصلين، الذي بدأته منذ دخول شهر رمضان المبارك، وهذه حالة نادرة الحدوث، تدل على أن الوضع في المنطقة كلها يتغير، وأن ما كان يمكن للإسرائيليين فعله في السابق لم يعد كذلك اليوم.
الرباط في المسجد الأقصى المبارك مستمر، والاعتكاف الليلي فيه مستمر أيضاً، ورغم الاقتحامات المتكررة من قبل المستوطنين والاستفزازات المستمرة، إلا أن الاحتلال لم ينجح في منع الفلسطينيين من الرباط في داخل الحرم القدسي.
الصواريخ التي انهمرت من جنوب لبنان على المواقع الإسرائيلية رداً على الاعتداءات داخل المسجد الأقصى، واستجابة لاستغاثات النساء اللواتي تعرضن لاعتداء الاحتلال داخل المسجد، هذه الصواريخ كانت مفاجأة كبيرة وغير متوقعة، كما أنها من الناحية الاستراتيجية لا تقل أهمية عن «معركة سيف القدس» التي خاضتها غزة قبل عامين من الآن، فهذه الصواريخ كانت رسالة واضحة فهمها الإسرائيليون جيداً، ومفادها أن الاعتداء على المسجد الأقصى هو اعتداء على الأمة، ويُمكن أن يشعل المنطقة بأكملها، ولذلك سرعان ما لجأوا إلى التهدئة، فلا ردوا على الصواريخ اللبنانية، ولا واصلوا التصعيد في المسجد الأقصى. ما حدث تاريخياً ويحدث الان هو أن الاعتداءات الكبرى على المسجد الأقصى، لا تمر من دون أن تحدث تغييراً استراتيجياً مهماً، ففي عام ألفين اشتعلت الانتفاضة الكبرى التي حملت اسم «انتفاضة الأقصى» وكانت رداً على اقتحام أرييل شارون لباحات الأقصى، ويومها بدأ التصدي له من قبل المصلين بالأحذية والحجارة قبل أن يتوسع الحدث إلى انتفاضة شاملة شارك فيها حتى رجال الأمن الفلسطيني في الضفة.
وفي عام 2021 خاض الغزيون معركة «سيف القدس» التي أرست قاعدة جديدة مفادها أن الاعتداء على القدس والمسجد الأقصى سيكون الرد عليه من غزة، وأن الاستفراد بالقدس وأهلها ومسجدها لم يعد ممكناً، وأن الفلسطينيين شعبٌ واحد وله مقاومة واحدة، وحينها اضطر الإسرائيليون إلى منع مسيرة الأعلام التي كانت موضوع الاستفزاز الرئيس للمقدسيين. في العام التالي لحرب «سيف القدس» خاض الفلسطينيون معركة «وحدة الساحات» والتي كانت أيضاً رداً غزاوياً على تصعيد اسرائيلي في الضفة الغربية، وكانت الرسالة يتم تأكيدها، وهي أن الضفة الغربية وغزة والقدس وحدة واحدة وشعب واحد والاستفراد بأي منهم لم يعد ممكناً.
الصواريخ الأخيرة من جنوب لبنان تُشكل التطور الاستراتيجي الأهم والأبرز لهذا العام، إذ أن هذه الصواريخ تعني من الناحية العملية أن التصعيد في المسجد الأقصى يُمكن أن يشعل المنطقة بأكملها، ويُمكن أن يُؤدي بـ(اسرائيل) إلى حرب شاملة، وهو السيناريو الذي أعاد إلى أذهان الإسرائيليين حرب عام 2006، التي لم ينجحوا فيها بتحقيق أي من أهدافهم، فلا تمكنوا من إضعاف حزب الله، ولا تمكنوا حينها من استعادة جنودهم المخطوفين، وانتهت تلك الحرب بخسارة إسرائيلية مدوية. فضلاً عن أن السيناريو الأسوأ الذي توقعه الإسرائيليون هو أن تشتعل جبهة الشمال مع حزب الله، وجبهة الجنوب مع حماس في غزة معاً، ويجدوا أنفسهم أمام حرب مفتوحة وغير مسبوقة، ولذلك اختاروا الرد المحدود على الصواريخ وخفض التصعيد على كل الجبهات.
واقع الحال هو أن المسجد الأقصى هو مصدر الإلهام لكافة الشعوب العربية، وهو مركز القضية الفلسطينية برمتها، وهو الذي سبق أن أشعل الأحداث الكبرى في التاريخ الفلسطيني بل في تاريخ المنطقة بأسرها منذ آلاف السنين، فهذا المسجدُ الأقصى هو الذي اضطر عمر بن الخطاب إلى السفر على قدميه من المدينة المنورة لاستلام مفاتيحه، وهو الذي دفع بلال إلى رفع أول أذان له بعد وفاة الرسول، وهو الذي سالت فيه الدماء حتى غاصت أقدام الخيول حتى الركب في عام 1099، وهو الذي أشعل الانتفاضة الكبرى في عام 2000. المسجد الأقصى يغير المنطقة بأكملها، ويُغير قواعد الاشتباك فيها، والصواريخ الأخيرة من جنوب لبنان دليل على أن الاعتداء على القدس يُمكن أن يُشعل حرباً شاملة في المنطقة وليس فقط داخل الأراضي الفلسطينية، وهذه المعادلة لم تكن قائمة في السابق، وإنما هي حصيلة آخر التطورات في المنطقة.