هنالك تحليلات تحتاج إلى تفكير عميق، وأخذ الموضوع من مختلف زواياه وتقليبه على عدة أوجه، وربط أمور بالكاد تُلمح وأخرى خفيّة تمامًا وأخرى مُعلنة، والعودة إلى الماضي والاطلاع على الأسبقيات والقياس عليها، وأخذ اعتبارات ذاتية وأخرى موضوعية لدى المتورطين في قضية ما، ثم ربط بعضها ببعض للتوصل إلى استنتاجات مُقنعة وقريبة من الحقيقة، وهي عملية تحتاج إلى اضطلاع واسع وقدرة على التحليل وإلى رؤية شاملة.
المشكلة الحقيقية في تحليل ما لا يحتاج إلى تحليل، لأنّه يشبه تفسير الماء بعد الجهد بالماء.
الموقف مما يجري في الأقصى واضح لا يحتاج إلى تفسير، وبالرغم من ذلك نرى المحلّلين من مختلف الأطياف والمناطق منشغلين فيه.
الاقتحامات مستمرة طيلة أيام السنة، وهي سياسة معلنة، تسعى إلى فرض أمر واقع جديد على حرم المسجد الأقصى، وتقسيمه الزماني والمكاني بين المسلمين واليهود، أي أن تكون للمسلمين ساعات معروفة ومحدودة يدخلون فيها إلى الحرم لا يدخلها اليهود، على الأقل في المراحل الأولى، ولليهود ساعات معروفة يدخلون فيها إلى الحرم ويُمنع المسلمون فيها من دخوله، ثم توسيع السّيطرة اليهودية عليه شيئًا فشيئًا، حسب الظروف وردود الفعل المحلية والعربية والإسلامية والدولية.
من هذا المنطلق يهاجمون المعتكفين في الأقصى، ويعدون أن وجودهم هذا يعرقل هذا المخطط، فالزمن المحدّد للمسلمين ينتهي مع انتهاء أداء صلاة العشاء، ومن يبقى بعدها في المسجد، يعد "محرّضًا ومخرِّبًا".
في تبريره للاقتحام الأخير الذي اعتقل فيه المئات من الشبان بعدما تعرضوا للضرب بالهراوات وأعقاب البنادق ولكل ألوان التنكيل، قال نتنياهو إن الشُّرطة دخلت إلى المسجد لإخراج مصلّين احتجزتهم "عناصر متطرِّفة" وأرغمتهم على البقاء في المسجد.
هذه الكلمات ليست موجهة إلى الاستهلاك المحلي، فالجميع من اليهود والعرب يعرفون أنّها كذبة ثخينة، ولكنه يوجِّهها إلى أميركا والغرب والعالم، فهناك من ما زال يسمع، أو يحتاج إلى مثل هذه التُرّهات لتبرير مواقفه الداعمة للاحتلال.
التصعيد الحالي يتعلّق في وضع الحكومة الحالية، ونتنياهو يريده تصعيدًا محسوبًا، أولًا فرصة لإحراج معارضيه الذين يتظاهرون ضد إصلاحاته القضائية، وما يسمونها دكتاتورية، وفي الوقت ذاته يمنح حلفاءه من القوميين الدينيين ما يطلبونه.
القائد العام للشرطة يعلن معارضته لاقتحامات الأقصى في العشر الأواخر لأنه يتوقع النتائج، التي قد تتدحرج إلى فقدان السيطرة، واتساع رقعة المواجهات على الجبهات المختلفة.
نتنياهو لا يريد أن يوصل حزب الله ومِن خلفه إيران إلى وضع يرغمهما على التصدي والتدخل، لأن هذا يعني الإسهام في رفع أسهم إيران، ومنح دفعة قوية للتقارب الإيراني السُّعودي، وهذا تعكير لأجواء للمطبّعين، وخصوصًا من لهم علاقة بالقدس مثل الأردن الذي يعتبر وكيلًا على إدارة المقدسات في القدس بحسب اتفاقات وادي عربة.
التصعيد سيدفع الشعب الأردني للخروج إلى الشوارع غاضبًا نصرة للأقصى وللناس الذين يتعرضون للتنكيل في رحابه لمجرد أدائهم الطقوس الدينية، وهذا سوف يضع العلاقات الدبلوماسية الأردنية-الإسرائيلية تحت ضغط كبير لا يمكن للملك عبد الله أن يتجاهله، هذا سينطبق على بلدان عربية أخرى.
من جهتهما، فإن حركتيّ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في قطاع غزة، لا تستطيعان التزام الصمت إذا ما تصاعدت الاعتداءات على المسجد والمصلين، وستضطران إلى الرَّد، بتنسيق مع حزب الله، وهذا سيجرُّ ردَّا.
حزب الله الذي أعلن في كل مناسبة أن الأقصى ليس وحيدًا، سيجد نفسه في مواجهة لا يريدها، ولكنه لا يستطيع التجاهل، وممكن أن يردَّ، والقذائف التي أُطلقت من جنوب لبنان، ليست بعيدة عن أعين حزب الله بالرغم من إنكاره بأنّه أطلقها، ولكنه بلا شك يعرف مَن وكيف وبعلمه.
تصريحات قادة أحزاب المعارضة بأن نتنياهو قد يهدم ما بناه من سبقوه، يقصدون توتير العلاقات مع دول مثل مصر والأردن والمغرب، ومع دول إسلامية حتى تلك البعيدة، إضافة إلى خسارة التعاطف التقليدي من دول أوروبية كثيرة، وطبعًا إضعاف السلطة الفلسطينية بحيث ينتهي دورها، وهذا يعني لمعارضي نتنياهو العودة إلى المربّع الذي سبق اتفاقات أوسلو، وهذا يعني دفن مرحلة وبدء مرحلة جديدة من الصراع.
قلنا لا بد من توضيح الواضح، وهو أنّ الاحتلال هو المسؤول الأول والأخير عن تصعيد أو تخفيف اللّهب، وهو المسؤول عن النتائج في الحالتين.