فلسطين أون لاين

سارا على مبدأ لم تزحزحه عروض التنحي 

تقرير "الحلاق" رفض المساومة على "عروسته" وقرية "الجنيد" تفتقد حارسها "الأمين"

...
الشهيد محمد ناصر سعيد "الحلاق" (20 عامًا)
نابلس - غزة/ يحيى اليعقوبي:

"عروستي البارودة وحور العين بتسناني بالجنان" كلمات جاهزة كانت تخرج على الفور وبلا تفكير من فم الشاب محمد ناصر سعيد "الحلاق" (20 عامًا) رافضًا عروض والده المتكررة بالزواج، راسمًا لنفسه نهاية ختامها "عرس الشهادة".

كان صاحب ابتسامة لا تفارقه حتى عندما يلتقط صورة له وهو يحمل البندقية، امتاز بالشجاعة والجرأة في صد اقتحامات جيش الاحتلال لمدينة نابلس، رفض عروضًا ومغريات لترك السلاح والحصول على وظيفة بأجهزة أمن السلطة.

رأى فلسطين بوصلة وحيدة، إلى أن رسمت دماؤه خارطة وطنه صباح الإثنين (3 إبريل/ نيسان) خلال اشتباك مسلح خاضه مع قوات الاحتلال التي اقتحمت نابلس، كما استُشهد خلال التصدي الشهيد محمد جنيدي "أبو بكر".

صباح اليوم ذاته، أيقظت اتصالات هاتفية متتالية والد الشهيد الحلاق، كانت والدته تستمع لإحدى المكالمات فتسلّل إلى مسامعها خبر الإصابة، خارت قواها، لم تتهيأ لهذه اللحظة التي أعاد زوجها تذكيرها بكلّ المؤشرات السابقة: "هدا طريق اختاره ابنك"، وتركها تتجرع ألم الاستشهاد بعد هذا التمهيد.

لم يتنحَّ

"الجميع يحب ابني ويشكر فيه، سار في درب المقاومة وصمم على الشهادة رفض أن أزوجه، كان واضحًا صريحًا بمواقفه ومبادئه، حتى عندما عرضت السلطة عليه وظيفة وراتبًا مقابل التنحي عن المقاومة رفض"، بكلمات ممتلئة بالصبر والاحتساب يقول والده لصحيفة "فلسطين".

على قصاصة ورقية صغيرة، خطّ الشاب وصيةً بتاريخ 16 أكتوبر/ تشرين أول 2022، كانت حروفها غير متناسقة الشكل، وفي نفس الوقت عميقة الانتماء، جاء في نص بعضها سطورها: "إني أقاتل في سبيل الله ولرفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله".

لم تخلُ علاقته بوالديه من وصيته "ديرو بالكم على أمي وأبوي وقربوا من ربنا ولا تتركوا الصلاة، ضلكم ادعولي وطلعوا الصدقات عن روحي وحاربوا أعداء الدين واحموا مقدساتنا والسلام ختام" وأكد في نهاية الوصية أنه لا ينتمي لأيّ تنظيم، وأنه يجاهد تحت راية التوحيد.

يعلق والده على ما ورد في وصيةِ ابنه: "كانت تلك الكلمات يرددها دائمًا معنا للتأكيد على ثباته على نهج المقاومة".

اعتُقل الحلاق لدى الاحتلال لمدة ثمانية أشهر قبل ثلاث سنوات ومنذ عامين لم تتوقف اتصالات مخابرات الاحتلال لتسليم نفسه.

لكن قبل خمسة شهور وعندما اقتحمت قوات الاحتلال بيته بدأت مرحلة أخرى من حياته، يتوقف عندها والده: "راقبوا تحركاته ولحظات الدخول للبيت، فعندما حضر الساعة السابعة صباحًا للنوم، وبمجرد دخوله البيت، تفاجأنا باقتحام مفاجئ لاعتقاله لكنه استطاع القفز من النافذة والانسحاب".

بعد ذلك تحول لقاء الشاب مع عائلته لزيارات "خاطفة" يأتي فيها للمنزل يطلب رضى والديه ثم يغادر، يحمل خلال المطاردة معاناة لم ينسها والده: "كان ينام أحيانًا على الطرقات، لكنه تحمّل وصبر لأنه مؤمن بالشهادة والدفاع عن الوطن".

اقرأ أيضًا: بالصور جماهير غفيرة تشيع الشهيدين الحلاق وأبو بكر في نابلس

امتاز نجله الشهيد بابتسامة ناصعة رسمتها محياه، انتزع المشهد ضحكة طويلة من والده ممزوجة بجرح الفقد: "في كل لحظة تحضرني ملامحه كنت أرى ابتسامته التي كانت لا تفارق، وبعد استشهاده عرفت الكثير عنه، طيبته بين الناس وحضوره واحترامه".

حارس قرية الجنيد 

"لا تعزيني، بل هنئني" صوت صلب وكلمات قالها مصطفى (18 عامًا) نجل الشهيد محمد جنيدي "أبو بكر" ، يرفض التعزية معتبرًا استشهاد والده "عرسًا" يتطلب الفرح والابتسامة وليس ذرف الدموع، فهذا الخبر كان يتوقعه بأيّ دقيقة ولحظة.

لحق الشهيد محمد بشقيقه رامي الذي استشهد خلال اشتباك مع قوات الاحتلال عام 2003، وكان يمتلك متجرًا للأغذية يقع على مدخل قريته (الجنيد غرب الواقعة غرب نابلس) فكان حارسًا حقيقيًّا للقرية وأمينًا عليها كما عُرف عنه، وأُصيب عدة مرات برصاص الاحتلال، وعرف عنه شجاعته وإقدامه في مواجهة الاحتلال.

في مقاطع كثيرة له، ظهر الشهيد جنيدي وهو يُوزّع الحلوى ابتهاجًا بعمليات المقاومة، وأخرى يصر أنه يريد الشهادة ولا يخاف من المواجهة، بصوتٍ متماسك يقول نجله لصحيفة "فلسطين": "هو اختار الطريق الأفضل، كنا نتوقع خبر استشهاده بأي لحظة، والحمد لله ولدي بطل اشتبك مع جنود جيش الاحتلال".

قبل ساعات من استشهاده، أوصل الفتى والده لمكان تحصن به، ومع لحظة الاشتباك ظلّ يتابع ما يجري حتى تلقى اتصالًا هاتفيًّا يخبره بـ "استشهاد والده"، فكان أول من وصل إليه ليجده مُسجًّى بدمائه، معاهدًا إياه بالاستمرار على ذات الدرب.

إضافة لمصطفى لدى الشهيد جنيدي طفلان وهم إياد (12 عامًا) وأسيل (11 عامًا)، لم تكن العلاقة بينهم مجرد أبٍ وأولاده، يردف بعفوية: "كنت أحكيله أبويا قدام الناس بس، كنت أعتبره صاحبي".

والجنيدي هو الشهيد الثاني ضمن أسرته، فقد سبق أن اغتالت قوات الاحتلال شقيقه رامي، خلال اشتباك مسلح في مدينة نابلس في عام 2003.