فلسطين أون لاين

رواسخ

حادثة تحويل القبلة وتكوين الهوية

ثبت أن النبي ﷺ والمسلمين حين قدموا المدينة كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، 16 أو 17 شهرًا، ثم جاء الأمر الإلهي بعد ذلك بالصلاة قبل الكعبة المشرفة، ونزل في ذلك آيات كريمة كما سيأتي.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يتوجه في صلاته إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى الناس به لأنه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التوحيد بحق كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون مستقلًا ومتميزًا عن أهل الديانات السابقة الذين حرفوا، وبدلوا، وغيروا كاليهود والنصارى، ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتشبه بهم بل يأمر بمخالفتهم.

تكاد تكون حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة هي الفاصل بين الحرب الكلامية، وحرب المناوشات، والتدخل الفعلي من جانب اليهود، لزعزعة الدولة الإسلامية الناشئة.

وإن لحادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة أبعادًا كثيرة: منها السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي؛ فبعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة، وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام، إذ أصبح مركز التوحيد مركزًا لعبادة الأصنام، وبعدها الديني أنها ربطت القلب بالحنفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام في بقية الأديان.

إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم وتمييزكم بشخصيتكم من نعم الله عليكم، وقد سبقتها آلاء من الله كثيرة عليكم، منها:

﴿كما أرسلنا فيكم رسولا منكم﴾: فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المربين والدعاة هو من خصيصة هذه النخبة القيادية، التي شرفها الله تعالى بأن يكون هو المسؤول عن تربيتها؛ فقيه النفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النور، والبرهان، والحجة.

﴿يتلو عليكم آياتنا﴾: فالمادة الأساسية للبناء والتربية كلام الله تعالى، وكان يرافقه شحنة عظيمة لنزوله أول الأمر غضًا طريًا، فكان جيلًا متميزًا في تاريخ الإنسانية.

﴿ويزكيكم﴾: فالمعلم المربي رسول الله ﷺ، فهو المسؤول عن التربية، وهو الذي بلغ من الخلق والتطبيق لأحكام القرآن الكريم ما وصفه الله تعالى به من هذا الوصف الجامع المانع الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم من دون البشرية كافة ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾، وهو الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بأعظم ما يملك بشر أن يصف به نبيًّا، فقالت: "كان خلق نبي الله القرآن".

فهذه هي المهمة ﴿ويعلمكم الكتاب والحكمة﴾، تعليم الصحابة الكرام الكتاب، والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثرًا في الأمة لا بد من المربي الرباني الذي يزكي النفوس، ويطهر القلوب، ويعلمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم، وسنة سيد المرسلين، فيشرح للمسلمين غامضه، ويبين محكمه، ويفصل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحح خطأ الفهم لهم إن وجد.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ويربي أصحابه لكي يعلموا ويربوا الناس على المنهج الرباني، فتعلم الصحابة من رسول الله منهج التعليم، ومنهج التربية، ومنهج الدعوة، ومنهج القيادة للأمة من خلال ما تسمع، وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد.

﴿ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾: ماذا كانوا قبل الوحي والرسالة؟ وماذا أصبحوا ذلك؟ كانوا في حروب، وصراع، وجاهلية عمياء، وأصبحوا بفضل الله ومنّه وكرمه أمة عظيمة، لها رسالة وهدف في الحياة، لا همّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وحققوا العبودية لله وحده، والطاعة لله ولرسوله، وانتقلوا من نزعة الفردية والأنانية والهوى إلى البناء الجماعي، بنـاء الأمة، وبنـاء الدولـة، وصناعة الحضارة، واستحقت أن تكون خير أمة أخرجت للناس.

﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾: فهذه المنن، وهذه العطايا، وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدو والآصال، وشكره عليها، وحثهم المولى عز وجل على ذكره، وبكرمه يذكرون في الملأ الأعلى، بعدما كانوا تائهين في الصحاري، ضائعين في الفيافي، وحقّ لهذه النعم جميعًا أن تشكر!