تتمسك ريما دويك من سكان مدينة القدس المحتلة وجاراتها بعادة السكبة الرمضانية، وتقول إنها تبعث في نفسها البهجة والفرح، وتشعرها بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين، على الرغم من أنها أوشكت على الاندثار في أغلبية المناطق المدنية والقروية.
ولا تكترث دويك (40 عاما) وجاراتها لنوعية الطعام الذي تريدان إيصاله في الطبق، فأحيانًا يكون نوعًا جديدًا من السلطات، أو فطائر السمبوسك، أو أقراص الكبة، أو طبخة شرقية، أو حتى يكون نوعًا من الحلو، أو العصير، "وندرك أن هذه العادة التي ورثناها عن أمهاتنا يمكن أن تساهم في حل أي خلافات بين العائلات، وإعادة المياه لمجاريها وتزيد الألفة".
وترى أن هذه العادة التي يمارسونها حتى في غير رمضان، كثيرًا ما تنفذها بسبب ضغط العمل وفقدان القدرة أحيانًا على ضبط الإيقاع بين احتياجات البيت والالتزامات المهنية الخارجية، فتطلب منها جارتها أو تفعل هي، بألا تعد شيئًا لطعام الفطور، وتتولى كل واحدة من جاراتها إرسال سكبة مما تعده لعائلتها، في حين هي تحضر معها صنفًا من الحلوى.
تقول دويك: "أنا من الأشخاص الذين يحبون الجمعات واللمات العائلية، فكثيرًا ما أتفق مع جاراتي على الإفطار سويًا أو تناول السحور معًا"، وترى أن هذه العادة المتوارثة منذ عشرات السنين تنشط في شهر رمضان وتكون لها خصوصية مميزة.
السكبة الرمضانية هي عادة قديمة وتراثية تنشط في شهر رمضان المبارك، تتبادل فيها ربة المنزل طبقًا من الأكلة الرئيسة مع جاراتها المقربات أو أقاربها الذين يسكنون في الجوار، ما يترك بصمة على مستوى العلاقات الاجتماعية.
وغالبًا ما تقع مهمة توزيع السكبة الرمضانية على عاتق الأطفال الذين يطوفون على البيوت قبيل أذان المغرب بنصف ساعة.
وما إن يعطي الطفل "السكبة"، حتى يُطلب منه الانتظار حتى يعود صحنه عامراً بـ"سكبة" أخرى، والتي كانت كسفارة خير ومحبة تطرق الأبواب لتعمّق الود، أو تزيل جفاء حان وقت إقصائه في شهر المحبة.
سطوة الحياة
تذكر سماح خدرج طفولتها جيدًا، عندما كانت تطلب منها والدتها قبل أذان المغرب بربع ساعة أن توصل السكبة الرمضانية إلى جارتهم، وترفض مغادرتها دون أن تحمل الطبق ممتلئا بما أعدته هي لأسرتها.
وتأسف السيدة الأربعينية لتلاشي تلك العادة تقريبًا بفعل مظاهر التمدن التي طغت على الناس، "كما أن العلاقات بين الجيران لم تعد كما كانت في الماضي، ولذلك نادرًا ما نرى عائلات لا تزال متمسكة بالكثير من العادات الرمضانية".
ومن وجهة نظر خدرج فإن انشغال الناس بشؤون حياتهم وظروفها وأعبائها، فقد تغير النظام العمراني وبات الناس يعيشون في أبنية طابقية بدلًا من الحارات العتيقة.
وتلفت إلى أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة عامل آخر مهم وتؤثر في الجوانب المعيشية، "فبالكاد تدبر الأسر طعام يومها، بالإضافة إلى عدم وجود أي ترابط اجتماعي أو علاقة في التجمعات السكنية".
وتتمنى خدرج أن تعود تلك العادات القديمة إلى صدارة الحياة الرمضانية وتصبح أسلوبًا للتعامل في الحياة، فهي تظهر صورا من التكافل الاجتماعي والتضامن والتلاحم.
تعزز التكافل والتواصل
ولـ"السكبة" آثار اجتماعية تؤثر في الحالة النفسية للإنسان، بحسب مختص علم النفس الاجتماعي زهير ملاخة، الذي يؤكد أن هذا السلوك يساهم في تقوية النسيج الاجتماعي، ما ينعكس أثره في التعامل الإيجابي بين الناس، وإزالة الضغائن من النفوس، ويثبت المودة والمحبة بين الأفراد.
ويوضح أن السكبة عادة تراثية اجتماعية شرقية سادت المجتمع الفلسطيني تعبيرًا عن المحبة والتآخي بين الجيران ودلالة على قوة العلاقة.
ويلفت إلى أن الجيران قديما كانوا أشبه بعائلة ممتدة يملأ قلوبهم الخير والبساطة والألفة والرحمة في ظل تلك القيم الاجتماعية والعادات التكافلية، ولكن مع التغيرات الحياتية وعولمة الثقافات والانتقال الجغرافي للأسر، وامتدادها وكبرها وانتشار الثقافات المادية أثر كل ذلك في شكل العادات والمظاهر الاجتماعية.
ويبين أن هذه العادة تعزز التكافل والتواصل والرحمة وتنشر المحبة، فلا تجد جارا محروما من طعام معين ولو بالشيء القليل، كل حسب مقدرته، "هذا التكافل المباشر وغير المباشر يحقق الأمان الغذائي والاستقرار النفسي والوجداني والاجتماعي".
ويلفت ملاخة إلى أن انقطاع تلك العادات والقيم وإحلال الخصوصية المطلقة وعدم تدخل الجار بالآخر وغياب معالم التواصل والتفقد الإنساني والاجتماعي يجعل النفوس محرومة من خير العادات الإيجابية الموروثة، وتحل في النفوس مشاعر الجفاء والحرمان والشعور بالعجز.
ويرى أن من الضرورة حفظ تلك الموروثات من الضياع، إذ تتحقق بها معاني الإنسانية ومبادئ وغايات الإسلام العظيم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ".
ويؤكد ملاخة أهمية ألا يقتصر ذلك على رمضان وإن كان الشهر فرصة لتأصيل ذلك وتعويد النفس على القيم والأنشطة، فعندما تدخل الفرح على جارك بسكبة طعام مما أعدت لأهل بيتك ستجد السعادة في قلبك قبل أن تقع في قلب جيرانك وأقربائك.