فلسطين أون لاين

عن يوم الأرض في ذكراه الـ47

...

طمرة، الجليل: كان يوم طمرة يوم 30 آذار/ مارس عام 1976 غائمًا وباردًا، تخلّلت صباحه رشّات خفيفة من المطر. وكنت هناك صباح ذاك اليوم، على بعد أمتار قليلة من الشارع الرئيس حيث تجمهر على جانبيه عشرات الشبّان، حاول عبثًا شبّان ينتمون للحزب الشيوعيّ تفريقهم بحجّة أنّ الإضراب يتطلّب البقاء داخل المنازل أو حولها وليس أكثر. وحدثت هناك مشادّات كلاميّة بين الفريقين، مشادّات كلاميّة لم تمنعهم من رؤية باصات "إيجد" تعود، كما جاءت، فارغة من المسافرين، دلالة واضحة على شموليّة الالتزام بالإضراب. وفجأة أخذ الشبّان يتهامسون، وأخذت أعدادهم تتزايد. وعرفنا وقتها عن صدامات دامية بين الشبّان الفلسطينيّين وشرطة وجيش الاحتلال في قريتي سخنين وعرّابة البطوف؛ صدامات أسفرت عن ارتقاء شهداء. وبعد وقت قصير أطلّت من جهة الغرب، جهة مدخل القرية، سيّارات الشرطة ومجنزرات الجيش، فهرب الشبّان شرقًا نحو مركز القرية. وهناك، قرب الجامع الرئيس والمقبرة الرئيسة، كانت المنازلة بين حجارة الشبّان الغاضبين ورصاص القوّات الغازيّة الطائش، قوّات لم ير الشبّان مثلها داخل القرية من قبل، ولم ير الكبار مثلها داخل القرية منذ عام 1948. ومع تتابع الأخبار حول ارتقاء الشهداء الستّة، كانت تتصاعد في درجة غليانها مشاعر الحزن والغضب. لقد كان الحزن عارمًا، وكان الغضب ساطعًا. وعرفنا، وفي خضمّ اليوم ذاته، أنّنا بصدد حدث غير مسبوق في تاريخ الفلسطينيّين بالداخل المحتل بعد نكبة عام 48. ولكنّنا لم نعرف وقتها أنّنا بصدد يوم وحدث فارقين في تاريخ الفلسطينيّين جميعًا.

النصّ والسياق: إذا كان النصّ يعنى بما حدث يوم 30 آذار/ مارس عام 1976، بتفاصيله المملّة وغير المملّة، فإنّ السياق يعني، في المقابل، بما كان عليه الحال قبل ذلك اليوم الفارق والدامي، والذي من دونه، أي السياق، ما كان ليحدث ما حدث، وما كان لما حدث أن يكتسب ما اكتسب من أهمّيّة ودلالة خاصّتين. وفي اعتقادي، هناك أربعة عناصر، متتالية ومترابطة، ترسم بمجملها ملامح ذلك السياق لأحداث يوم الأرض الأوّل ودلالاته. هذه العناصر الأربعة هي الآتية:

- لقد ردّت حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 1973 قدرًا غير يسير من كرامة قوميّة عربيّة هشّمها من قبل ذلك الانكسار الموجع في أعقاب عدوان 1967، ذلك الانكسار الذي أفقد العربيّ ثقته بنفسه وبقيادته وبقدرته على التجاوز والردّ على التحدّي. وبهذا المعنى، لقد كانت حرب 1973 انتصارًا على الذات أكثر ممّا كانت انتصارًا على الطرف الآخر.

- وبعد حرب 1973 مباشرة، أخذ نجم منظّمة التحرير يتوهّج ويسطع. وفي القمّة العربيّة في الرباط عام 1974، تمّ الاعتراف بالمنظّمة ممثّلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطينيّ. وأعقب ذلك الاعتراف العربيّ الهامّ خطاب ياسر عرفات في الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة في نيويورك في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته.

- وقبيل حرب 1973 تمّ تشكيل "الجبهة الوطنيّة" في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967، والتي قادت بعد الحرب نضالات شعبيّة واسعة في كلّ من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، تلك النضالات الّتي زادت وتيرتها، واتّسع نطاقها خلال السنوات القليلة التالية. وقد أدّت هذه النضالات الشعبيّة، من بين أمور أخرى، إلى إبعاد شخصيّات وطنيّة وازنة خارج حدود فلسطين التاريخيّة، ما فجّر بدوره موجات صاخبة من الغضب الشعبيّ في المناطق المحتلّة عام 1967.

- وعلى مستوى فلسطينيّي الداخل، هناك حدثان هامّان في عام 1975، ولكلّ منهما علاقة حميمة ومباشرة بيوم الأرض: الأوّل كان تشكيل "لجنة الدفاع عن الأراضي"، وذلك لغرض قيادة التصدّي للسياسات الحكوميّة الآثمة، والتي تستهدف بالمصادرة أراضي فلسطينيّي الداخل عمومًا، وأراضي قرية كفر قاسم ومثلّث القرى سخنين - عرابة - دير حنّا خصوصًا. الجدير ذكره في هذا الصدد، أنّ لجنة الدفاع عن الأراضي هي الهيّنة الوطنيّة الّتي اتّخذت القرار الجريء والصعب بشأن إضراب يوم الأرض، وهي التي وجّهت النداء للجماهير العربيّة للالتزام به والمشاركة فيه. أمّا الحدث الثاني، والذي لا يقلّ أهميّة عن الأوّل، فهو فوز جبهة الناصرة بقيادة توفيق زيّاد في انتخابات بلديّة مدينة الناصرة في خريف عام 1975، بشهور قليلة قبل يوم الأرض. ولتوفيق زيّاد، كما نعرف جميعًا، دور فاعل وغير قابل للإنكار في إنجاز ذلك الحدث الفارق.

ولكنّ الأهمّ من كلّ هذه العناصر ذات العلاقة بالسياق، منفردة كانت أو مجتمعة، هو الآتي: يوم الأرض الأوّل هو إنجاز جيل شباب ذلك الزمن، جيلنا، جيل الذين ولدوا بعد نكبة عام 48، جيل شباب عربيّ بدأ يرفع رأسه، ويردّ على التحدّي، ويستعدّ لدفع الثمن، كلّ الثمن، حتّى لو كان الثمن دمًا. هذا الجيل الجديد من الشبّان والشابّات العرب هو الّذي حارب في معارك تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، وهو الّذي رفع بالنضال والتضحيات من مكانة وشأن منظّمة التحرير، وهو الذي أوصل توفيق زيّاد إلى رئاسة بلديّة الناصرة، وهو الذي أمّن الالتزام بالإضراب يوم 30 آذار/ مارس عام 1976، وهو الّذي واجه بحجارته وصدوره العارية الرصاص الطائش لشرطة وجيش الاحتلال. هذا، بالطبع، دون التقليل في شيء من أهمّيّة الدور التوجيهيّ والقياديّ لرجال ونساء الجيل السابق.

الزلزال والارتدادات: على مستوى فلسطينيّي الداخل، كان يوم الأرض الأوّل زلزالًا اجتماعيًّا وسياسيًّا. وكأيّ زلزال، كانت له ارتدادات متتابعة. ومن بين هذه الارتدادات يبرز الآتي:

- بعد يوم الأرض الأوّل لم تعد علاقة فلسطينيّي الداخل بالدولة العبريّة كما كانت عليه قبل ذلك. بعد يوم الأرض صار الفلسطينيّ في الداخل أقلّ خوفًا من سطوة المخابرات والسلطات القامعة الأخرى من جهة، وأكثر جرأة في الدفاع عن حقوقه وكذلك في التأكيد على هويّته الوطنيّة الفلسطينيّة من جهة أخرى.

- وبعد يوم الأرض الأوّل بفترة وجيزة، تمّ تأسيس "الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة"، تلك الجبهة الّتي خاضت غمار الانتخابات التشريعيّة لأوّل مرّة بهذا المسمّى عام 1977. كما وأخذت منذ عام التأسيس هذا تخوض الانتخابات للسلطات المحلّيّة العربيّة بالمسمّى الجديد.

- وبعد يوم الأرض الأوّل لم تعد علاقة فلسطينيّي الداخل مع الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة كما كانت عليه قبل ذلك. فقد أصبح فلسطينيّو الداخل أكثر اندماجًا وارتباطًا بالحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، أهدافًا ونضالات وطنيّة. كما وأصبحت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بدورها أكثر ترحيبًا بهم واحتضانًا لهم. واصلبّ بعد يوم الأرض الأوّل عود حركة "أبناء البلد" في الداخل الفلسطينيّ، برنامجًا، وتنظيمًا ونضالات وطنيّة.

طمرة مرّة أخرى: كنت من بين المشاركين في إضراب يوم الأرض الأوّل، ومن المروّجين له، وكنت شاهدًا على ما حدث في ذلك اليوم العصيّ على النسيان (وما سبقه ولحق به من أيّام). كنت وقتها مدرّسًا في المدرسة الثانويّة في قرية طمرة، بلدي. وكنت في الوقت ذاته طالبًا في جامعة حيفا. وكنت شاهدًا على تصميم وحماس غير مسبوقين من قبل طلبة الجامعة وزملائي وطلّابي في المدرسة الثانويّة للاستجابة لنداء الإضراب، وذلك رغم الهواجس والمخاوف الكثيرة من خطر عقوبات لوّحت بها السلطة الحاكمة ورجالاتها. وقبل يوم الأرض بيومين، جاءنا إلى المدرسة الثانويّة رئيس المجلس المحلّيّ وقتها، الشيخ زكي ذياب. جاء وهدّد المدرّسين والطلّاب من عواقب الترويج للإضراب أو المشاركة فيه. تمامًا كما فعل قبل ذلك بيومين، وللغرض نفسه، في اجتماع رؤساء السلطات المحلّيّة العربيّة في شفا عمرو، ذلك الاجتماع الّذي زأر في نهايته توفيق زياد قائلًا: "الشعب قرّر الإضراب". وللمفارقة الكبرى، فبدلًا من أن يعاقب المشاركون في الإضراب من المدرّسين والطلّاب في طمرة، فقد كان الشيخ زكيّ ذياب نفسه أوّل المعاقبين (بفتح القاف)، إذ أزاحه شركاؤه في الائتلاف من منصبه بعد يوم الأرض مباشرة. لم يدرك ذلك الشيخ وقتها وللأسف ذلك الفارق بين الشجاعة والتهوّر. ولم يدرك تحديدًا أخطار التجديف ضدّ التيّار. وكان التيّار الشعبيّ وقتها جارفًا.

وختامًا، لقد عرفنا قبل نهاية شهر آذار/ مارس 1976 أنّ إضراب يوم الأرض وما تخلّله من صدامات بين الشباب الفلسطينيّ والشرطة والجيش الإسرائيليّين، وما تمخّضت عنه تلك الصدامات من سقوط ستّة شهداء، أنّنا بصدد يوم وحدث غير مسبوقين في تاريخ فلسطينيّي الداخل منذ نكبة عام 48. ولكنّنا لم نعرف وقتها أنّنا بصدد يوم وحدث فارقين في تاريخ فلسطينيّي الداخل والفلسطينيّين عمومًا. وليس ذلك غريبًا، فالأيّام والأحداث الفارقة تعرف بعد مرور فترة من الزمن. ونعني بالأيّام والأحداث الفارقة تلك التي يختلف الحال بعدها بصورة جدّيّة أو جذريّة عمّا كان عليه قبلها. ونعني بذلك أيضًا، بأنّها أيّام وأحداث ذات حمولة ثقيلة من المعاني والدلالات والتحوّلات. وفي هذا الشأن أقول: بعد يوم الأرض الأوّل أصبح الفلسطينيّ في الداخل أكثر جرأة وإقدامًا، وأكثر استعدادًا للتضحية في سبيل الدفاع عن الحقوق، وأكثر جهرًا والتصاقًا بهويّته الوطنيّة وبالتزامه الوطنيّ الفلسطينيّ. وأخيرًا، قبل يوم الأرض الأوّل كانت الأرض موردًا معيشيًّا نادرًا، أمّا بعده، فقد أصبحت رمزًا وطنيًّا أيضًا؛ رمزًا للبقاء والهويّة والكرامة الوطنيّة. وهكذا ظلّت بعد مرور 47 عامًا!

المصدر / عرب 48