مضت بنا الحياة وأنا على أمل أن تطرق الباب يوماً وتقول كنت في سفر طويل وعدت لبيتي ..
لا أكذب يا أبتي إن قلت لك أنني يومياً يخيل لي هذا الأمر ؛ أتخيل شكلك حين تدخل البيت ووجهك يملؤه تعب الطريق حتى وصلتنا، وتسند يديك كما أتذكرها الآن حين تعود من عملك وتستند عند باب المطبخ وتحدث أمي عن يومك .
هذا المشهد ما غاب عن بالي طيلة طفولتي وسأبقى أتخيله حتى يشتعل رأسي شيبا ..
نغمض أعيننا وبتنهيدة واحدة نقول: ياااااه كأنه أمس ما حصل لنا ..
ما حصل أنني لن أنسى ضحكاتي حين لعبنا يوماً كاملاً سوياً وكنت تنتظر إجازة الخميس "عيد العمال" لتخرج جميع العائلة للبحر .
لن أنسى ملابسي التي رتبتها لأنتظر الصباح لنخرج ولن أنسى ما وعدتنا به بالأمس .. !
لكن ساعات الانتظار لم تكتمل توقفت عند الواحدة ليلاً ،فكان صوت طلقات العدو يصدح بكل مكان وصوتك حين قلت الله أكبر يملأ كيان روحي ويقشعر جسدي حين أذكر تكبيراتك وخرجت حاملاً سلاحك وتنادي
" أيمن يوسف هاني "
المشهد مهيب يا أبي ركنت بسلاحك على جنب ..واستيقظتُ من نومي حينها أناديك لكنك ناديت حي على السلاح أذكر أنك ودعتنا وكان العناق شديد ..
دقائق واشتد صوت الرصاص وكانت الطائرات تحوم حول بيتنا ؛ لا مفر لنا ولا أمان غير حضن أمي فقط ..
بدأت المآذن تنادي وتكبر باسمك يا الله
كان الرصاص يحيط بنا جميعاً وكان الأبشع صوت كلابهم ؛ ما أهابني شيء في وقتها، فأمي تحيطنا بدعائها وبين ذراعيها تخبئنا ..
وما كان الأشد وجعاً زوجة عمي التي احتضنت ابنتها الوحيدة لتحميها من رصاص الغدر إلا أن حضن يديها خانها وبرصاصة اقتلعت عين طفلتها وأصابت يديها .. !
من هنا ابتدأ الخوف واشتد الحصار علينا وما من مكان يحمينا ويأوينا ولا مفر لنذهب إليه ..
إلى أن بقينا حتى ناشدنا ونزلنا لبيت عمي وكانت كلابهم تشبههم ؛؛ عيونهم يملأها الخوف منا .. ذكر الله يطمئننا أن الله معنا ويحمينا وسيبعدهم عنا ..
الحياة هنا قاسية جداً يا أبي حين أذكر هذا المشهد وكيف خرجنا من بيتنا وكيف كان كتف عمي ممزقة شرايينه ودمه يسيل أرضاً ؛ وأختي تنزف دماً ؛ وكيف هرعوا حين أصيب كلبهم .. !
رأفوا بحيوانهم وخرقوا أجسادنا رصاصاً
هنا كان الشفاء لقلوبنا لأننا تربينا على قول أشهد أن لا إله إلا الله ، تربينا على أننا أصحاب أرض محتلة ؛ وصراعنا مع عدونا مستمر حتى يكون النصر لنا ..
قتلاهم كانت تملأ المكان وصراخ جرحاهم كانت الشفاء لصدورنا بهذا الوقت ..
خرجنا لمنزل جيراننا لنعرف ما المصير وإلى أين سنذهب !!
ما من ساعات ونيرانهم تشتد فوق رؤوسنا من رصاصات وقنابل وكانت النهاية صاروخ هدم بيتنا !!
القصة ليست هنا فقط !!
بل كان الفخر والقوة حين حدثتنا زوجة عمي بالبيت الذي كنت تقاوم منه انك طلبت الماء لتتوضأ وبُترت يدك وكنت تحمل سلاحك بيد واحدة ! كنت رجل صالحاً وهادئاً وكانت شهادتك جميلة ضاحك الخدين منير الثغرين .. ومسك روحك ترافقنا ..
من هنا بدأت الحكاية حين قالوا أيمن شهيد ويوسف شهيد واختتموا بقولهم محمود شهيييد !
الصوت ملأ قلبي حزناً حتى أغمى علي أرضاً ، لا أذكر شيئاً وقتها إلا أنني سمعت أن أبي "الشهيد محمود"
تخيل يا أبي أن الحياة ذهبت حلاوتها واستمرت مرارتها وأنا على أمل عودتك لنا ..
لا اعتراض على حكم الله وقدره ،
فذكراك فخر لنا ما حيينا إلى أن نلقاك ..
رحمك الله وجمعنا معك بالفردوس الأعلى مع الصديقين والأنبياء وحسن أولئك رفيقا..
طفلتك التي كبُرت يا أبي ، ابنة الشهيد محمود أبو هين