من جديد يتعرض المسجد الأقصى المبارك للتدنيس والتخريب والاعتداء على المعتكفين داخله، فقد اقتحم العشرات من قطعان المستوطنين صباح الأحد الفائت، الأقصى من جهة باب المغاربة بحراسة مشددة من شرطة الاحتلال الإسرائيلية، التي فرقت ساحات الحرم من المصلين والمعتكفين بإلقاء القنابل الصوتية عليهم، ثم شرعت في إخراجهم من المصلى القبلي، والتضييق عليهم، واعتقال عدد منهم في ساعات متأخرة من الليلة السابقة، ودفعت سلطات الاحتلال بأعداد كبيرة من وحدات القمع التابعة لها لاقتحامه والاعتداء على المعتكفين، تمهيداً لتأمين اقتحامات المستوطنين، وفقًا لدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس.
فبأي حق يُقتحَم المسجد الأقصى ويُعتدى على المصلين فيه؟ إن هذه السياسة الصهيونية لم تكن وليدة اللحظة، بل إنها متبعة منذ عقود طويلة تهدف لتهويد المعالم العربية والإسلامية التاريخية في مدينة القدس، وتزداد في شهر رمضان؛ لاستفتزاز مشاعر الفلسطينيين، بهدف التصعيد وليس التهدئة التي يدعيها الاحتلال، فقد بدأت قوات الاحتلال في اقتحام الأقصى منذ الساعات الأولى لاحتلال مدينة القدس في عام 1967، وأصبحت عادة عند مختلف شرائح المجتمع الصهيوني من مختلف التيارات الدينية والأيديولوجيّة التي تدعي بناء "الهيكل" مثل ما سمي "جماعات الهيكل"، أو "جماعات المعبد" أو “جماعة خراب المعبد”، ومن غيرها، ومنهم من يفعل ذلك يومياً، أو أسبوعياً، أو شهرياً، ومنهم من يفعل ذلك لغرض الاستكشاف مرة أو مرتين كلّما سنحت له الفرصة، أو فقط ينضم للمقتحمين في مواسم التصعيد، ومنهم من يقتحم الأقصى للدعاية الانتخابية أو لأهداف سياسية أو لمصالح شخصية.. إلخ.
أيًّا كان هدف هؤلاء الصهاينة، فلا يملكون مسوغًا ولا أي حق شرعي أو سياسي يجيز لهم اقتحام الأقصى أو هدمه لبناء الهيكل المزعوم، وإنما يفعلون ذلك في سياق إيمانهم بقدسية المكان ومركزيته لترسيخ خرافة “الهيكل الثالث” بأي طريقة "لتحريره" من العرب، في إطار سعيهم لـ"تطبيع" الوجود اليهودي داخله، والمطالبة بالصلاة العلنيّة فيه، وصولاً إلى بناء هيكلهم المزعوم بعد التخلص من المصليات الإسلامية وانتزاع المكان من أيدي الفلسطينيين.
وتعقيباً على ذلك يرى البروفيسور يتسحاق رايتر، رئيس الجمعية الإسرائيلية للشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بجامعة رايخمان، منع المتطرفين اليهود من هذه الممارسات الاستفزازية للعديد من الأسباب، نشرها في مقاله بصحيفة “يديعوت أحرونوت” بتاريخ 25/11/2022، سأطلعكم على أهم ما جاء فيه، يقول: "لا يمكن فصل المسجد الأقصى عن السياق الأوسع للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث يتعرض الفلسطينيون للتمييز في جميع المجالات، وبالنسبة لهم فإن المسجد الأقصى هو آخر معاقلهم، وهم قلقون أن يُسحب منهم ثالث أقدس مكان في الإسلام"، أما ثاني هذه الأسباب فهو "أن مبادئ القانون الدولي والأمم المتحدة واتفاقيات جنيف لا تجيز للدولة التي احتلت منطقة من الأرض أن تلحق الأذى بالأماكن المقدسة للمحتل".
وأضاف أن السبب الثالث "يكمن في ادعاء الأقدمية، بزعم أن اليهود يدعون أننا (كنا هنا أولاً)، وهذا غير صحيح فيما يتعلق بالمسجد الأقصى، فحقيقة أن المكان ضم معبداً يهودياً منذ 800 عام، لا يفوق حقيقة وجود مسجد إسلامي منذ 1400 عام”، وهذه الشهادات تدحض كلام المتطرف سموترتيش الذي ينكر الوجود الفلسطيني قبل قرن، ولعل التاريخ خير شاهد أن اليهود لا وجود لهم في فلسطين والقدس في تلك الفترة.
وأمام كل هذه الحقائق لم يترك الفلسطينيون أولى القبلتين وحده، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم، فكما تصدوا للشارون عندما أقدم على اقتحامه في عام 2000، فتفجرت الانتفاضة، واليوم يتصدون لاقتحامات "بن غفير" وقطعان المستوطنين بالرباط الذي أخذ أشكالاً متعددة، منها رباط الشبان داخل المصلى القبلي في الليلة التي تسبق اليوم المعلن للاقتحام الموسع، أو إقامة مصاطب العلم، أوالتكبير في أوقات الاقتحامات، وهذه الجهود ثبتت نجاعتها عدة مرات؛ عند زيادة عدد الفلسطينيين داخل المسجد تضطر شرطة الاحتلال لمستويات أعلى من تأمين وحماية المقتحمين، ما يعني إجهاداً لها، لذلك تفرغ المصلين والمعتكفين قبل عمليات اقتحام المستوطنين، أو تمنع دخول الفلسطينيين في فترة الاقتحام الصباحي، أو تقيد الدخول لأعمار محددة، أو تقيد الدخول بشرط إبقاء بطاقة الهوية على باب المسجد لتسجيل معلومات الداخلين إليه، واستدعائهم إن لزم الأمر، وكلها أساليب مكشوفة تتبعها سلطات الاحتلال تمهيدا للتقسيم المكاني والزماني.