لم يبقَ من الحكاية سوى دماء مقاتلٍ خط بها وثيقةَ رفض الاستسلام، ورائحة البارود، ولحن عُزف بصوت رصَاص ثائر رحل قبل شروق الشمس، وبقايا طعام سحور من الزعتر والزيتون، وبقعة دماء كبيرة ملأت غرفته بعد نزيف جروحه في أثناء الاشتباك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفرشة وملاءة كانتا شاهدتين على آخر غفوة له، وبقايا رصاص، وآثار قذائف، وشهيد ممدد على الأرض.
هكذا سطر الشاب أمير أبو خديجة (25 عامًا) ملحمة بطوليةً وخاض اشتباكًا، مع قوة مستعربين إسرائيلية خاصة حاصرت منزله في قرية "شوفة" الواقعة جنوب شرق طولكرم شمال الضفة الغربية.
"لم تعد هذه البلاد تتسع للجميع، إما لنا وإما لنا وأنتم منها بإذن الله مخرجون"، كان هذا واحدًا من منشورات عديدة نشرها الشاب أبو خديجة على حسابه الشخصي على فيسبوك، تدلل على عمق انتمائه لفلسطين، ورفضه الاستسلام الذي لم يكن شعارًا وإنما مبدأ سار عليه.
اقرأ أيضا: بالفيديو ما هي رسالة الشهيد أمير أبو خديجة لمحمد الضيف.. تعرف على التفاصيل
كانت صفحته الشخصية مساحة يعبر فيها عن عزته بالمقاومة وتمسكه بها، تباهى ببطولات المقاومة في معركة سيف القدس 2021، في التفاصيل كتب: "بشهر مايو 1948 كانت النكبة الفلسطينية.. وبإذن الله وبهمة المقاومة وهمة شعبنا وتحت قيادة محمد الضيف راح يكون شهر مايو من سنة 2021 نكبة على رأس الصهاينة".
انقطاع 3 أشهر
ترفض كلمات والده إعلان الحداد، كان صلبًا أمام جرح الفقد، يرفض الانكسار أمام الحزن كما كان نجله يرفض الانكسار أمام المحتل، يقول لصحيفة "فلسطين": "لم أرَ ابني أمير منذ ثلاثة أشهر بسبب مطاردة الاحتلال له، حتى أنهم قبل أسبوعين اقتحموا بيتنا ثم فتشوا بيوت أصدقائه وكانوا يبحثون عنه".
لم يكن والده يدري ما يدور في الخارج لم يصله أصوات الاشتباكات التي دوت بها بلدته، إلا عندما استيقظ على وقع رنات متتالية انهالت على هاتفه فجر أمس، يخبره المتصل بمحاصرة نجله.
يطل على الحدث مرةً أخرى: "لم يكن الأمر مفاجئًا كنت متهيئًا لهذا الاتصال في أي وقتٍ، لأن ابني رفض تسليم نفسه، وأخبر الجميع أنه عندما يُحاصر سيشتبك ولن يستسلم أو يسلم نفسه وأن أمنيته أن يلقي الله شهيدًا، وبقيت أتابع التطورات عبر الأخبار حتى أعلن استشهاده".
بنبرة صوت صلبة ينعى نجله بكلمات خرجت من قلب مؤمن: "صحيح أن العين تدمع والقلب يحزن، لكننا سعداء بعرس الشهادة، وهذا رصيدنا في الآخرة".
لدى أمير شقيقان ذكور هو أوسطهم وثلاث شقيقات، تسع الذاكرة والده بصورة من رمضان العام الماضي قائلًا: "نحن كأسرة دائمًا نجلس مع بعضنا على مائدة واحدة، بها فرح، كان حضوره جميلًا، لكن في رمضان الحالي سيحضرنا طيفه وروحه، صبرنا الله".
ابن غزة
ولد أمير في مدينة غزة عام 1994 حينما انتقل والده للعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية بغزة واستقر هو وزوجته هناك قبل أن يعود لطولكرم عام 2010.
نهل أمير تعليمه الابتدائي في مدارس قطاع غزة حتى الصف السادس بعدما رضع كرامة وعزة، ترعرع في شارع الوحدة، ثم غادر مع والده للضفة وهو بعمر 12 عامًا، وترك قلبه في القطاع المحاصر، يتفاعل مع كل الحروب التي شهدتها غزة، ومع شارع الوحدة الذي نشأ فيه وقتلت طائرات الاحتلال من سكانه نحو 46 مواطنا في مايو/أيار 2021، عندما انهالت عليهم الصواريخ وهم نائمون.
ما يزال والده يستذكر بيته بمدينة غزة، مؤكدًا أن هذا الحب لغزة لم ينقطع بانتقاله للضفة متممًا: "لا زلنا مرتبطين ومتعلقين بغزة".
رسم أمير حكاية بين زخات الرصاص وبدمائه وقَّع على وثيقة حب فلسطين لم تفلت هذه العلاقة من إحدى منشوراته وكانت أشبه بوصية "وإنَّ نفسي اختارت دروب العزة وإن صعبت، وأنفتُ دروب الذلة في زمن الإذلال، فيا نفس أصبري على الأيام الثقال ولو زادت وأبشري بالعزة والفرج القريب فهذا وعد رباني".
ياسمين حنتولي مصورة وصحفية من مدينة جنين، قبل الحدث بيوم زارت العشرات من أمهات الشهداء بمدينة ومخيم جنين وقدمت لهن ورودًا بمناسبة يوم الأم العالمي، على أمل أن تنتهي جرائم الاحتلال مع شهر رمضان وأن تأخذ استراحة في الشهر الفضيل بعيدًا عن رائحة الدم.
اقرأ أيضا: حماس تنعى الشهيد أبو خديجة وتؤكد أنَّ اغتيال المقاومين لن يوقف ثورتنا
لكن هبت الرياح بعكس اتجاه سفينة توقعاتها، عندما أطل الصباح حزينًا، وجدت نفسها أمام مهمة صحفية جديدة تقتضي تصوير البيت الذي تحصن فيه أبو خديجة، تدلي بشهادتها لصحيفة "فلسطين" من تفاصيل بقايا طعام السحور من زيت وزعتر وتقول: "واضح أنه تسحر ثم خلد للنوم قليلًا، قبل بدء الاشتباك، وفيه أطلقت القوات الخاصة قذيفة انيرجا".
تقول بصوت مثقل بصور ومشاهد لمراسم تشييع الشهداء: "تكسرت النوافذ، والأثاث، تظهر بقعة الدماء الكبيرة أنه نزف طويلًا قبل وصول سيارات الإسعاف التي منع الاحتلال تقدمها".