قد يتحول تاريخ الثلاثين من آب الماضي إلى واحد من أيام فلسطين المشهودة في العصر الحديث، ومع أننا سننتظر طويلًا كي نتحقق مما ستفضي إليه نتائج تحقيقات النائب العام أحمد براك، في الشكوى التي قدمها إليه عدد من الشخصيات الوطنية المعنوية والاعتبارية المسيحية؛ تبقى هذه السابقة أي اتهام قيادة الكنيسة الأرثوذكسية في القدس متمثلة برئيسها ثيوفيلوس وأعضاء مجمعه وأعوانهم ومستشاريهم خطوةً تصويبية هامةً، أسهمت _وإن قليلًا_ في إخراج قضية تسريب أوقاف هذه الكنيسة من غابات "المطر الأسود اليوناني الكنسي"، وكشفها نزفًا فلسطينيًّا موجع آن الأوان أن تواجه دماءه بمسؤولية جماعية وطنية ووحدة مسيحية جامعة، ويعاقب كل من كان مسببًا أو مستفيدًا أو شريكًا أو متعاونًا أو متواطئًا فيما أسميته "مذبحة أراضي فلسطين المسيحية" المستمرة.
من اللافت أن تقديم الشكوى وما اشتملته من وثائق ومعطيات تتعلق بعدة صفقات بيع لجهات غريبة قد استحوذ على مساحات إخبارية ملحوظة في فلسطين وخارجها، وأثارت تفاصيل ما نشر من معلومات عن أطراف التعاقد المستفيدة من تلك البيوعات حمية العديدين من أبناء فلسطين البررة، وقسم من مؤسساتها النقابية والمدنية الهامة، وقد نعد بيان نقابة المحامين الفلسطينيين من أبرز وأهم تلك البيانات، وذلك ليس فقط لكونه صادرًا عن نقابة لها مكانتها ووزنها الاعتباريان وهي صاحبة العلاقة المهنية في موضوع الشكوى القضائية، بل إضافة إلى ذلك كون مضمون البيان واضحًا وحازمًا لا يمكن إغفال روحه من اليوم فصاعدًا.
فموقف نقابة محامي فلسطين بكل أطيافها من الوقف الأرثوذكسي في المدينة المقدسة يؤكد أننا "أمام قضية وطنية خطيرة، وهي ليست مجرد مسألة كنسية بل هي جزء من وطن"، وبعد ذلك التأكيد الضروري والتشخيص الثمين تعلن النقابة "أن ما قام به البطريرك ثيوفيلوس وأعضاء المجمع خاصته يشكل مساسًا بالحقوق الموروثة والمصانة، ومساسًا بالهوية الوطنية الفلسطينية"، قائلة: "فالأوقاف المسيحية والإسلامية تشكل جزءًا مهمًّا وأصيلًا من ترابنا وأرضنا وتاريخنا وهويتنا، وإن التفريط بها يرقى إلى درجة الخيانة العظمى"، أوجزوا وقطعوا على كل العابثين والمتلعثمين والمهملين والمغرضين طرق النفاق والتضليل والمهانة.
مع ما أحرزته هذه المسألة من استنفار لقوى جديدة، وضمها إلى صفوف من يحاولون منذ سنوات طويلة كشف مخطط الإجهاز الكبير على أملاك الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين وإحباطه؛ ما زلنا نلحظ غياب الاهتمام المقنع في الأوساط الشعبية والمؤسسية المؤثرة، وبين القادة والسياسيين الملزمين بالدفاع عن المصلحة الوطنية، وذلك مع تحذيراتنا المتكررة أن الشركاء في تلك المؤامرة الكبرى يندفعون بشهوتين لا تعرفان الرحمة ولا المهادنة ولا الشبع، فبعضهم متخصص في الانقضاض على ما يعدونه مساحات إستراتيجية تقع ضمن دوائر المصالح "الحمراء" للقيمين على تنفيذ سياسة الاستيطان الصهيوني التنيني الجشع، خاصة في حدود القدس الكبرى والمناطق ذات الخصوصية التاريخية، وآخرون يلهثون وراء شهواتهم المادية الخنزيرية، التي لا يردعها ضمير إنساني.
قد يكون الجهل الشعبي بمعطيات مسلسل التفريط في الكنيسة الأرثوذكسية أحد أسباب ضعف المؤازرة المرغوبة، وقد يكون يأس "الكمشة" العربية المسيحية الصغيرة وراء عدم تحرك هذه الأقلية المأمول، مع أننا شهدنا في هذه الجولة تصاعدًا في عدد الأصوات المسيحية المعارضة والشاجبة لما يحدث، وفي طليعتها ما قرأناه من بيانات أجمعت على إصدارها معظم المجالس التمثيلية الأرثوذكسية في القرى والمدن الفلسطينية، وتضمنت موقفًا يطالب العموم بمقاطعة ثيوفيلوس ورجالاته وعدم استقبالهم في كنائسنا وفي مجالسنا وفي حواضرنا.
لقد شكلت هذه "النهضة" مشهدًا نضاليًّا وطنيًّا ومسيحيًّا مبشّرًا لا لبس فيه ولا خدوش عليه، وخلقت أيضًا حالةً مدنية ورعوية تفيض بمشاعر العزة والتفاؤل، ما دعانا لاستغراب سبب إصدار "بطاركة ورؤساء الكنائس في القدس" بيانًا مشتركًا لا ينسجم مع تلك المواقف السائدة وخارجًا عن الإجماع الأرثوذكسي العربي الواسع.
مشكلتي مع البيان تبدأ بشكله وتنتهي بمضامينه المغمغة والمهادنة، فقد استهلوه بحكمة استلهموها من كتاب "أشعياء" إذ تعظنا: "تعلموا فعل الخير، اطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم"، وقد كان أولى بهم توجيه تلك النصائح إلى زميلهم ثيوفيلوس؛ فهو الذي نسي حكمة " أشعياء"، وهو المتهم الأول في قضايا بيع عقارات الكنيسة الأرثوذكسية، وبدل أن يفعلوا ذلك وجدنا اسمه يتصدر قائمة موقعي البيان، ومن ورائه اصطفت تواقيع باقي البطاركة ورؤساء الكنائس، في صورة دفعت كثيرين إلى التساؤل والاستهجان، لاسيما من أولئك الذين لهم في تاريخ النضال الوطني أقساط، ولكنائسهم مساهمات مميزة في الذود عن التراب الفلسطيني، ووقفات مشهودة ضد سياسات الكيان العبري القمعية، وخاصة الاستيطانية.
يبدأ النص معلنًا: "نحن رؤساء الكنائس في القدس نلجأ اليوم إلى إصدار بيان عام يعبر عن قلقنا بشأن انتهاكات الوضع الراهن (الستاتيكو)، الذي يحكم المواقع المقدسة ويضمن حقوق الكنائس وامتيازاتها"؛ فمن هذا الكلام لا نفهم عن أي انتهاكات يتحدثون، وعلى أي مواقع مقدسة يبدون قلقهم، وقد يتبادر إلى الذهن أنهم يقصدون تلك الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، فنحن لم نسمع عن اعتداءات إسرائيلية رسمية جرت بحق مواقع مقدسة كنسية مسيحية.
ثم ينتقلون بلغة ركيكة ومليئة بالتعابير والجمل التي يمكن تفسيرها على أوجه كثيرة ومتناقضة أحيانًا إلى القول: "وفي ظل هذه الأمور إننا نحن رؤساء الكنائس حازمون وموحدون في معارضتنا لأي عمل تقوم به أي سلطة أو جهة تسعى إلى تقويض القوانين والاتفاقات والأنظمة التي نظمت حياتنا على مدى قرون"، من هي تلك السلطة أو الجهة التي "يهددونها" بحزم؟، إن كان الكيان العبري هو المقصود فلماذا تنكروا لاسمه ولم يشيروا إليه ولو بالترميز؟!، أما إذا قصدوا غيره _وهذا وارد وفقًا للنص_ فهوياتهم كثيرة، وهي تبدأ بالتصويب نحو النائب العام الفلسطيني، وتنتهي بالمجالس الرعوية والمؤسسات الوطنية والمسيحية في فلسطين وغيرها.
ويحاولون بعد ذلك التعاطي بارتباك وبطريقة غير مهنية ومحزنة مع واحدة من أخطر القضايا الوطنية المتفاعلة في فلسطين، وهي ما نسميها مؤامرة الإجهاز على جميع ممتلكات الكنيسة ومن ضمنها عقارات البلدة القديمة في القدس، فيضيفون: "ولما كان هناك إجراءات أخرى تشكل خرقًا واضحًا للوضع الراهن؛ فإن قرار المحكمة المركزية الإسرائيلية في قضية "باب الخليل" ضد بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية نعده غير عادل ... وهذه الإجراءات هي اعتداءات على الحقوق التي ضمنها دومًا الوضع الراهن (الستاتيكو)".
من كتب لهم ذلك البيان؟!، وبأي لغة أم فكروا؟!، هل افترضوا حقًّا أن من سيقرأ هذه "الهراءات" سيصفق لوطنيتهم المتلعثمة وإنسانيتهم العرجاء؟!، وهل بالتعبير عن "قلقهم" المحلق سيرضون مسيحييهم وأهل البلاد؟!، وهل قرؤوا تعليل القاضية لقرارها قبل أن يكتفوا بنعته بـ"غير العادل"، وهو قرار قضائي مفصلي وخطير "يشرعن" عملية اغتصاب بابين من أبواب القدس؟!
لو قرؤوا تفاصيل الرواية، كما وردت في القرار وكما نعرفها؛ لما وافق بعضهم على وضع توقيعه وراء اسم ثيوفيلوس أو بمعيته، وهو المسؤول الأول والأخير عن خسارة القضية وضياع تلك العقارات وغيرها.
كم كان أفضل لو لم يصدروا بيانهم!، وقد أنهوه بخفة غير مسؤولة بالدعوة للتضامن مع قضاياهم العادلة، وضمان عدم بذل أي محاولات أخرى "من أي جهة كانت" لتغيير الوضع الراهن، فهم لا يقولون شيئًا يليق بالحدث، وكأني بهم يصرون على إفهامنا بأن "سهامهم" مصوبة نحو أكثر من جهة، فالكيان العبري قد يكون عندهم واحدًا منها، لكنه ليست المتهم الوحيد بالاعتداء على المواقع الكنسية، فمن يا ترى غيره المقصودون؟
أنصح المعنيين والبطاركة ورؤساء الكنائس في القدس بمراجعة مواقفهم وبيانهم، لأنه برأيي يتضمن مواقف سلبيةً ومغالِطة، وسيبقى _وإن لم يكن ذلك مقصودًا_ مجرد محاولة "لتنظيف" ثيوفيلوس ورجالاته ومعاونيه مما فعلوه ويفعلونه في حق أوقاف المسيحيين وتراب الوطن.
فمن يغيّر وضع العقارات المسيحية المقدسية التاريخي في فلسطين هم رؤساء الكنيسة اليونانيون ومعاونوهم، وعلى رأسهم "زميلكم" ثيوفيلوس، ولا علاقة لتسريب هذه العقارات بما أسميتموه على وجه التعميم "وضعكم الراهن"، بل هي طعنات في قلب مستقبل حلم (أمل) سيبقى اسمه "فلسطين"، ومعركة على بقاء ما تبقى من وجود فلسطيني مسيحي كسيح، لأننا كما أعلنت بوضوح نقابة محامي فلسطين "نحن اليوم أمام معركة وطنية بامتياز، تتمثل بحماية أرض الوقف الأرثوذكسي"، نقابة المحامين التي أكدت أنها تقف "صفًّا واحدًا مع كل المدافعين عن عروبة فلسطين بأوقافها ومقدساتها وممتلكاتها في وجه المفرطين بها".
هذا هو صوت الحق؛ فمع من أنتم؟