فلسطين أون لاين

"ما تبقى لنا".. بحث عن الأثر المفقود في البلدة القديمة

...
"ما تبقى لنا".. بحث عن الأثر المفقود في البلدة القديمة 
غزة/ هدى الدلو:

من داخل البلدة القديمة شرقي مدينة غزة وما تحتويه من عمران يعبّر عن هوية المدينة وأصالتها، انطلقت ولاء بمشروع مسار "ما تبقى لنا"، والذي يبحث في مرحلته الأولى عما تبقى من أثر إنساني داخل البلدة.

ويمثل المسار الجزء الأول من مشروع "العمارة المحكية" الذي يبحث في العلاقة التي تربط الإنسان بمدينة، وما يفعله الأثر كشاهد على التفاعل الأصيل الخلاق بينهما.

تقول ولاء شبلاق، وهي مهندسة معمارية وفنانة بصرية: إن المشروع مزيج ما بين تجربة ذاتية وأكاديمية، إذ درست فن العمارة الإسلامية، "ففي صغري نشأت في واحدة من تلك البيوت التقليدية في منزل جدي رحمه الله عبد القادر بسيسو، ومن الممكن تلخيص تلك التجربة بكونها تجربة روحية أكثر".

بحث عن الحيز الإنساني

تعي شبلاق مدى تأثرها بأن تستيقظ في بيت سقفه السماء، ما جعلها أكثر إدراكًا وفهمًا للعمارة الإنسانية، وكيف لتصميم هذه البيوت أن تعزز روابط العلاقة الأسرية؟ وكيف وفّرت مواد البناء المستعملة بنيانًا صديقًا للبيئة كما هو صديق للإنسان؟

أوجدت التجربة الذاتية والخلفية الأكاديمية مساحة أمام ولاء لتسليط الضوء على الإرث العمراني في مدينة غزة، "كونه يختزل أسس العمارة الإنسانية التي احتوت الإنسان جسدًا وروحًا، وأتاحت له مساحة لائقة لتكوين فراغه الخاص الذي يعبّر من خلاله عن كينونته وهويته".

وتقول: إن هذا الفراغ نفتقده تحديدًا في المدينة المعاصرة التي أصبحت قوالب مكعبة أقصى، ما قد يتمكن منه المرء أن ينتقي في أي قالب سيعيش.

وتوضح شبلاق "27 عامًا" أنها اختارت البلدة القديمة في غزة كونها المساحة التي لا تزال تحتوي على ما تبقى من هذا الإرث، فجزء كبير من معالمها من بيوت ومبانٍ قديمة خالية مهمشة، ينظر إليها العامة كخرابات تلقى فيها النفايات، وعدد لا بأس به من تلك المعالم لا تزال تحظى بوجود إنساني مثل المسجد العمري، والسيد هاشم، وسوق القيسارية.

تأريخ الوجود الإنساني

واعتمدت شبلاق أسلوب الرسم الواقعي للمعالم، فهذا الأسلوب ضروري ومُلحّ من وجهة نظرها، لأن عددًا كبيرًا من المباني آيل للسقوط، ومعرض للإزالة في وقت قريب لظروف وأسباب عديدة، "فاتخذت الفن أداة للتوثيق، إلى جانب التوثيق بالصور الفوتوغرافية لعدد من التفاصيل".

وتتبعت المهندسة المعمارية أثر الوجود الإنساني في البلدة القديمة عبر عدة جولات، وبحثت عن تاريخ هذه المعالم الأثرية وعمرها وأصحابها، ودونت الملاحظات، ورافقت ذلك بصور توثق المكان، لتقوم برسم اسكتشات مبدئيًّا، حولت إلى لوحات واقعية تؤرخ الوجود الإنساني فيها.

وتقول شبلاق: "إنها أنجزت 20 مشهدًا ولوحة واقعية، كل لوحة تركز على مشهد يحمل قيمة معمارية وإنسانية بحد ذاتها، ففي المشهد الأول رسم لميدان فلسطين "الساحة"، والذي هو بالأصل بوابة البلدة القديمة لغزة، مشهد نرى فيه من التناقض والعشوائية والفوضى ما قد ينكر وجود أساس للبلدة القديمة في تلك المنطقة، وتستمر المشاهد في تسلسل يتماشى مع المسار الذي قطعته بين تلك المعالم".

فتارة يركز المشهد على الزقاق، وأخرى على البيت، والباب، والمشربية، والقبة، والقبو المتقاطع، والزخارف، وركام من الإيوانات والأقواس المتعاقدة، إلى جانب كل لوحة هناك وصف نصي تشرح فيه عن المشهد لمن يراه للمرة الأولى.

رسائل

وتحاول شبلاق عبر مشروع "مسار ما تبقى لنا" إيصال عدة رسائل، فعلى المستوى العام التعريف بملامح البلدة القديمة في غزة، وتسليط الضوء على مدى أهمية المعالم المتبقية كشواهد وجودية للإنسان فيها، ومدى أهمية الحفاظ عليها، وتوجيه أنظار من بيده القرار لتحمل مسؤولية حمايتها وإعادة تأهيلها.

وعلى مستوى أكثر تخصصية، تريد توجيه أمثالها من المعماريين والفنانين والمختصين لإعادة النظر في شكل المدينة المعاصر مقارنة بما كانت عليه البلدة القديمة، "فهل ممارستنا الآن كافية لخلق بيئة تحتفي بالإنسان؟ وكيف من الممكن أن نعاود استخدام أساليب العمارة التقليدية بطريقة معاصرة تفي بمتطلبات الحياة الحالية والقادمة".

وعن بدايتها بالفن، تجيب أنها كانت عادية كأي طفل يحب الورقة والألوان ويحب الرسم، فلم تنشأ ببيئة فنية لتتمكن من فهم الفن، وأنها فهمته بعمق عندما درست عن المنظور الهندسي في التربية الفنية، وكيف يمكن للخطوط أن تخلق حياة، وكيف يمكن لهذه الخطوط أن تتركب بجانب بعضها لتصبح غرفة وبيت، مشيرة إلى أن دراستها لهندسة العمارة شكّل لديها مفهومًا مختلفًا عن الفن، "فهو أداة لخلق شيء عملي واقعي ملموس، وليس وسيلة للتعبير فقط".

وتستكمل: "مع الوقت وجدت نفسي في مساحة بين العمارة (كهندسة) وبين الفن كطريقة تعبير، وبفعل تجارب كثيرة تمكنت أن أجد مسارًا بين الاثنين، بين العمارة كفكر، وبين الفن كأداة للتعبير عن هذا الفكر بروح أو بلمسة خاصة بي".

وتطمح شبلاق لتكوين مساحة الخاصة بها كفنانة للتركيز على إنتاجها الفني ومشاركته مع الجمهور، ليس فقط عن طريق الفن، بل أيضًا على شكل ورشات عمل ولقاءات ونتاج ملموس قد يكون على شكل كتب أو منشورات، "إلى جانب استكمال دراستي في تخصص ذي علاقة يزيد خبرتي وممارستي كفنانة بصرية ومعمارية، وتوجيه كل ذلك للتغيير من الواقع الحالي للمدينة وأهلها".