كانت ملامحه هادئة وهو يجلس في أحد المقاهي يحتسي كأس القهوة وبجواره كأس عصير، على هذه الهيأة نشر معتز بالله الخوجا (23 عامًا) مقطعًا مرئيًّا على صفحته في موقع "فيس بوك" كآخر ما نشره، يناقض حالة هدوء المشهد صوت داعية وكأنَّه يعبر عن حقيقة ما يختبئ في قلب الشاب مستشهدًا بآياتٍ من سورة "القمر": "سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر".
فلم تمضِ سوى عدة ساعات، حتى نُشرت مقاطع لفرار إسرائيليين في شارع "ديزنغوف" الشهير في (تل أبيب)، بعدما نفذ الشاب عملية إطلاق نار اعترف الاحتلال بإصابة خمسة إسرائيليين بعضهم في حال الخطر، مشهد عبر عنه في نهاية المقطع الذي شاركه، وكان أشبه بوصيةٍ: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزُوا في سبيل الله".
مع حلول المساء، صلى معتز بالله صلاة المغرب الأخيرة، وودع شوارع بلدة نعلين غرب رام الله، وسط الضفة الغربية المحتلة، وكل من قابله من سكانها وهو يسير نحو ثأره الذي طبخه على نار هادئة، وجاء بعد مجزرة ارتكبها الاحتلال صباح الخميس الماضي ببلدة جبع قضاء جنين، نتج عنها اغتيال ثلاثة شبان.
الفصل الأخير
لم تكن عملية "ديزنغوف" هي أولى بطولات الشاب، فبلدة نعلين تشهد على مسيرة حافلة في مقارعة الاحتلال، بدأت مبكرًا في مراحله الدراسية، واعتقل على أثرها مدة عامين بتهمة إلقاء الحجارة وزجاجات حارقة وأكواعًا متفجرة على أهداف إسرائيلية.
باستخدام سلاح قديم "كارلو" خطَّ معتز مرحلة جديدة في مقارعة الاحتلال، ونفذ عدة عمليات إطلاق نار على تخوم بلدته التي دافع عنها واعتقل على أثرها وصادر الاحتلال سلاحه، ليكتب الفصل الأخير بعد رحلة مقاومة واعتقال بلغت في مجموعها أربع سنوات، في شارع "ديزنغوف" برصاصات مسدسه.
خرج معتز بالله محملًا بنار الثأر من بيت ذاق الويلات من الاحتلال الإسرائيلي، وهو نجل الشيخ صلاح الخواجا (51 عامًا) من قيادات حركة حماس الذي اعتقل عدة مرات، وتعرض للملاحقة والمطاردة وأبعد إلى مرج الزهور جنوبي لبنان بداية تسعينيات القرن الماضي، فلم يكن الابن أفضل حالاً من والده، فحرمه الاحتلال من استكمال تعليمه بسبب كثرة اعتقاله له.
بكلمات ممتلئة بالإيمان والصبر نعاه والده قبل أن تعتقله قوات الاحتلال أيضًا: "الحمد لله، شهادته كافية، معتز بالله ليس ابنًا فقط بل صديقًا، كان خلوقًا مؤدبًا ملتزمًا بصلاة الفجر، إنسانًا راقيًا".
يرثي فقده: "من يعاشره يسعد به، هو إنسان يحافظ على صلاته، ليس لديه علاقات كثيرة، وهو يعمل بمحل للأدوات المنزلية".
هنا تغلبت أمه على دموعٍ أذابت صلابتها مع قسوة الرحيل، عندما استهلت حديثها لصحيفة "فلسطين" بعبارات فخر: "معتز رفع راسي الله يرضى عليه، سبع، طيّب حنون، قنوع وشاب بسيط، وله حضور رائع بالبيت ويعاملني بأدب".
بصوتٍ يكسره الفقد ويرافقه الحزن، تطفو تفاصيل اللحظات الأخيرة لابنها على حديثها: "استيقظ صباحًا، ووضعت له طعام الإفطار، فرفض تناوله، كان مستاءً من خبر استشهاد ثلاثة شبان في بلدة "جبع" وقال لي: "شايفة يما في ثلاثة شهداء"، خاصة أنه تأثر المدة الأخيرة بالأحداث الجارية، وخرج لعمله بمحل أدوات منزلية".
لم يدم غياب معتز عن منزله طويلاً، وعاد بموعد يختلف عما اعتادت عليه أمه ما آثار استغرابها: "سألته: ليش راجع؟، فقال لي: مرشح تعبان، فناولته حبة دواء، وعاد بعد صلاة المغرب ومرّ علي بسوبر ماركت والده وودعني، وسلم على شباب الحارة وودعهم كذلك".
بعد ساعات من غياب نجلها، انتبهت الأم لملامح ابنها محمد وبدت شاحبة حفر الحزن مخالبه فيها، ليخبرها باستشهاد معتز قابلت الخبر على قسوته بالصبر والاحتساب، وبعد وقتٍ قصير كانت العائلة على موعد مع اقتحام لجيش الاحتلال، تروي: "اقتحموا البيت بطريقة وحشية وضربوا نجلي محمد بقسوة، وقال لي الضابط: "أنت مخلفة حيوان"، كنت خائفة من الرد، كنت أرد عليه بأنني أنجبت "سبعًا".
تعلق على أخذ جيش الاحتلال قياسات للبيت تمهيدًا للهدم: "راحت روح ابني، وهي أهم من حجارة البيت".
الطفل المناضل
تعج ذاكرة أمه بأحداث كثيرة شاهدة على حياة نضالية ومقاومة بدأت من طفولة معتز، كان أولها تعرضه للإصابة بقدمه برصاصة حيَّة أطلقها جندي إسرائيلي على قدمه، حينها لم يزد عمره عن عشر سنوات في أثناء مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال، تسحبها الذاكرة إلى الوراء: "تخفَّى عن الجندي الذي أراد قتله، ومكث بالمستشفى فترة للتعافي".
بعدها بسنوات تعرض لإصابة ثانية برصاصة معدنية مغلفة بالمطاط "ظلت آثار ما سببته من احتراق في قدمه ملازمة له حتى استشهاده، وفي مرة أخرى كانوا يحاولون قتله أمام البيت، فجنود الاحتلال يعرفونه" تداهم الدموع صوت والدته: "معتز أحب النضال، وكان يجري في دمه".
مساء الخميس، دخلت شقيقته ريماس (13عامًا) إلى غرفته للاطمئنان عليه، لتجد سريره فارغًا، وبعد لحظات جاءتها ابنة عمها تجر مخاوفها وهي تسألها بارتباك: "شو لابس أخوك"، لتحدق بصورة عرضتها على هاتفها لشاب يرتدي بنطالاً من درجات الأخضر الداكن (جيشي)، كانت علامة مكنتها من تحديد الأمر لها صاحبها صرخة مدوية خرجت من أعمق قلبها: "هذا أخوي معتز".
يثقل الحزن صوتها وهي تستحضر آخر لحظة جمعتها بشقيقها لصحيفة "فلسطين": "جاء قبل استشهاده بساعات، كنا نجلس في صالة استقبال الضيوف، قال لنا: "بدي أجيب زينة رمضان"، فعرضت عليه صورًا لزينة نريدها، ثم شرب حبة دواء، فقلت له: هذا النوع من الحبوب ينوم، فابتسم وقال لي: "أنا بدي أنام".
تعلق على آخر فيديو نشره شقيقها: "التقطه منذ ثلاثة أيام، وكان الكلام المرفق معه مقصودًا منه"، تصفه: "بأنه طيب وحنون، كان يقول لي: "شو ما بدك جيبي، وأنا بدفع".