العمليات البطولية الأخيرة أفشلت قمة العقبة الأمنية الثانية، وخلعت نعش خطة فنزل الأمريكية، فالأسرى يشكلون الصفيح الساخن المرعب في رمضان المقبل، والأحداث تلاحق المنظومة الأمنية والعسكرية للاحتلال إلى جانب رسائل النار التي انطلقت من غزة، في ظل تهديدات سياسية متطرفة وحكومة فاشية تهدد بتنفيذ قانون الإعدام للأسرى.
وما زالت منظومة الاحتلال تخشى من الخاصرة الأضعف وهم سكان الداخل المحتل وفلسطينو الـ48، فالأسرى والأقصى يُعدّان محرك الأحداث الفلسطينية، والأحداث الجارية هي التي ستحدد مصير الوضع المقبل من حيث توسعة العمليات أو حصرها في شهر رمضان، إذ لا يمكننا التوقع بظروف حالة الصراع القائمة بالنظر إلى طبيعة العمليات الفردية التي تستهدف الجنود والمستوطنين في القدس والضفة.
والحكومة الفاشية تدرك أن المسجد الأقصى هو الصاعق الذي سيفجر المنطقة إذا اقتُحم أو أُغلق، وشرطة الاحتلال تستعمل المتطرف "بن غفير" لمعرفة رد فعل الشارع المقدسي، وإذا تمادى الاحتلال في استفزازه للمقدسيين فإن المقدسيين لن يصمتوا عن هذه الاستفزازات، ولن تصمت أو تتخلى المقاومة عن دورها في منع المساس بالأسرى والأقصى.
والاحتلال الذي يواجه حالة من التفكك الداخلي والانقسام العنصري، يتلقى رسائل نارية أُطلقت مؤخرًا من رأس الهرم لقيادة المقاومة: "حذّرت العدو وأكدت انتهاء مرحلة سياسية، وأن الأيام المقبلة حبلى بالأحداث الميدانية التي قد تتحول لزلزال في المنطقة، قبل أن تجدد تأكيدها بالقدرة على التدخل المباشر في حال سنحت الفرصة واستوجب الأمر لأن الضفة والقدس ساحات الفعل المؤثر والتأثير الاستراتيجي في المرحلة الحالية".
وقد سخّرت المقاومة كل الجهود والإمكانيات لبناء وتثبيت قواعدها في الضفة وصولًا للدفاع عن شعبنا ومقدساتنا وثوابتنا وتحرير بلادنا وأرضنا المحتلة، إذ يريد العدوّ الصهيوني أن يكسر أهلنا في أحياء القدس ويرهب أبطال الضفة الغربية وثوّار الداخل وأراضي الـ 48 بإرهابه الغاشم والتنسيق المدنّس مع السلطة، إلا أنهم لن ينجحوا في كسر شوكة شعبنا، فنحن أبناء وطن وشعب واحد وقضية واحدة ومستقبل واحد.
القدس تواجه معركة عاتية في ظل التشديد والتقييد على أهلها، وغزة تواجه مرحلة قاسية وصعبة باستمرار الحصار الوحشي عليها، أما في ظل الأحداث الميدانية المرتقبة والتوترات في الساحة الفلسطينية يبقى سلوك العدو هو نتيجة اتخاذ قرار المقاومة وطبيعة الرد عليه، وهناك جملة من السيناريوهات المتوقعة للأحداث التي ستصيب المنطقة منها: إغلاق الأقصى ومنع المصلين من الاعتكاف والرباط ما قد يؤجج المشهد، أو دخول الأسرى في إضراب مفتوح وخوض معركة مع السجان الصهيوني، أو ذبح القرابين في باحات الأقصى وحائط البراق بعيد الفصح اليهودي، أو تنفيذ عمليات اقتحام جديدة وارتقاء شهداء في مخيمات الضفة، أو مفاجئة المحتل والإعلان عن عملية استراتيجية خلف خطوط العدو وتحقيق ضربة مقتل ويتضمنها مفاوضات عسكرية في ساحة القتال.
وقد نجح انتقال الإعلام في الحروب من التوثيق إلى التوجيه، ومن المسار إلى التأثير، ومن الإقناع إلى المبادرة؛ لذلك وجدنا همة عالية وقوة وإصرارًا كبيرين لدى الجيل الجديد في مواصلة العمل المقاوم، واستطاعت المقاومة إيصال رسائلها للمجتمعات بطرق واضحة، إذ رسّخ الإعلام إستراتيجية فعل مؤثرة وبناء قوة وتحقيق إسناد دائم لمعركة استباقية ومتوازية، حتى بات الإعلام يستخدم أساليب إقناع بالمشاركة والخوض في المعركة ضد الاحتلال وأساليب مرادفة بالرعب والخوف، فيُسأل من العدو ؟ وليس أين العدو ؟ ويمكن القول؛ بأن الفلسطيني بات مرتبطًا روحيًّا بحقه وأرضه وجذوره، ومهما نفّذ الجيش عمليات عسكرية لتدمير بنية المقاومة تزداد ردة فعل الفلسطينيين وتتعمق الكراهية، وبالتالي تتكوّن عقيدة الإيمان بطريق الجهاد عند الفلسطينيين.
وفق ما أوردته صحيفة هآرتس عن تصريحات سابقة هامة لدى أصحاب القرار الإسرائيلي منهم أرئيل شارون-رئيس الحكومة الصهيونية السابق عقب حرب 1967: (انتصارنا على العرب كان ثمرة مفهوم القتال وليس توازي القوى)، وقال بيني غانتس-وزير جيش الاحتلال الصهيوني السابق: (لا يمكننا منع العمليات التي ينفذها الفلسطينيون في الضفة الغربية والداخل المحتل)، وقال يعازر تواليدانو-قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الصهيوني: (كلما سيطرنا على خوفنا انتصرنا على عدونا)، فنَحْن كشعْب فِلسْطينيٍّ خُضنا جَولاتٍ من المَعَارك فِي طريق الجهَاد والْحرِّيَّة وَآخرِها كَانَت مَعْرَكة سَيْف اَلقُدس اَلتِي توحّدنَا فِيهَا جميعًا فِي غَزَّة والضَّفَّة والْقدْس والدَّاخل.
وعملت المقاومة في مسارات متعددة في حقب زمنية مختلفة؛ لتحافظ على الخطوط العامة لإستراتيجيتها في مركز القوة المتمثلة بـ(القدرة العسكرية) ومرتكز القوة المتمثلة بـ(الحاضنة الشعبية)، فمسار المقاومة هو تراكم القوة عبر البناء والتشغيل؛ لمواجهة الصراع واتخاذ القرار الجيد وصولًا إلى التموضع المستقبلي والرؤية المحقّقة بتوحيد الساحات وتعدد الجبهات وتباين استخدام قدراتها وفاعليتها في الزمان والمكان المناسبين، والمحافظة على الكفاءة القتالية والروح التعرضيّة لعناصرها، وتأمين قدراتهم البشرية والمادية والمعنوية سِلمًا وحربًا، فمن حرب لبنان الأولى عام 1982 حتى الانتفاضة الثانية عام 2000، كوّنت المقاومة حاضنة شعبية قوية كمرتكز لدعمها في المجتمع الفلسطيني، فيما بادرت لإبراز مركزها ونهضة قوتها عقب معارك ضروس خاضتها في قطاع غزة، وفي المقابل كان العدو يحاول عزل الساحات والعمل بخطة الاستفراد بالخصم ومنع الإسناد المتبادل له لمنع تحقيق أهدافه، عبر عمليات السور الواقي -تعني الفصل والانفصال- والخيارات العسكرية الصعبة التي اتخذتها آنذاك، بهدف ترسيخ اعتقاد للعالم بأن القضية الفلسطينية شأن داخلي إسرائيلي، إضافة لإكمال مشروع بناء جدار الفصل العنصري بالضفة وعزل غزة واستباحة الضفة بالاجتياحات، واغتيال كوادر المقاومة وتصفية الخلايا الصغيرة في المخيمات الفلسطينية؛ لتقليل نسبة العمليات الفدائية والقومية وتدمير البنية التحتية الفلسطينية سياسيًّا وأمنيًّا، في ظل تحقيق معادلة الملاذ الآمن والتي تمثلت في بناء وتشغيل القوة للعمل المقاوم والتساهل النسبي في القيود الأمنية وإلغاء الاتفاقيات السابقة وخلق أرضية جديدة للمفاوضات، وكذلك تنفيذ عملية السور الواقي عام 2002 بهدف القضاء على الانتفاضة، عقب تنفيذ الاستشهادي عبد الباسط عودة عمليته الفدائية بفندق بارك في نتانيا، والتي كانت الأضخم تفجيريًّا والأكثر دمويّةً، وأدّت إلى مقتل 30 صهيونيًّا وإصابة 146 آخرين، تزامنًا مع عيد الفصح اليهودي.
وترتكز سياسة الاحتلال على مبدأ أساسي داخلي وهو "تكثيف قدرة الوحدات والتشكيلات العسكرية والعناصر المختلفة على الفتك، من حيث النطاق والدقة"، لذلك وقع في فخ توقعاته الفاشلة لاعتماده على خطتي رؤساء أركان جيشه المهزوم: خطة جدعون وخطة تنوفا؛ نتيجة استقراء خاطئ لما أعدته المقاومة له في سيف القدس عام 2021، فكانت توقعاته خارج حساباته وضربت القدس وتل أبيب.
دائمًا ما يُعِدّ رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي كجزء من مهامه وعمل طاقمه المستمر خطط عمل متعددة السنوات تسعى إلى تكييف الأهداف مع الوسائل والإمكانيّات التي تخصصها له الحكومة، وبالرغم من أن الكثيرين يعدون هذا الأمر دليل تقدّم لجيش الاحتلال ومصدر قوته، الا أن المضحك في الأمر أنه على مدى السنوات العشرين الماضية، نفّذ خطتين فقط لمدة أربعة سنوات من أصل السنوات الخمس التي تغطيها الخطة عادة: وهي خطة تنوفا (2008-2012) وخطة جدعون (2016-2020)، لذلك عندما تولّى رئيس الأركان السابق "أفيف كوخافي" منصبه، قاد الجهود من أجل صياغة خطة سميت "تنوفا-الزخم"؛ لتتبع خطة سلفه "غادي آيزنكوت" المسماة "جدعون"، لكون الأخيرة كانت معدّةً للمرحلة التي كان فيها محور المقاومة (إيران وسوريا وحزب الله) أكثر انشغالًا بالدفاع عن سوريا، وما رافق تلك الفترة من اتفاق نووي لذلك لاحظت "تنوفا" ضرورة تحسين قدرات جيش الاحتلال، لتلائم التغيرات الجيوستراتيجية في المنطقة لصالح المحور، وإن هذه الخطة وإن استمرت أو أُدخل عليها تعديلات (على ضوء نتائج معركة سيف القدس) فستبقى عاجزةً عن تحقيق أي "نصر"، لأن جوهرها هو سلب الروح القتالية لدى الجنود، أمام محور مقاومة يقاتل جنوده بأرواحهم قبل أي شيء آخر.