طفا على السطح في الأيام الماضية نقاش يكاد يكون محسوما، حول مشروع “الدين الإبراهيمي” المشبوه الذي تكلّل بافتتاح مجمّع “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبو ظبي، بمباركة من النّظام العالمي، وتأييدٍ من بعض الدول العربية.. النقاش يكاد يكون محسوما في المرحلة الحالية لصالح إنكار المشروع والبراءة منه، لافتضاح أمر الجهات الراعية والمروّجة له، لكنّه ربّما يتحوّل إلى نقاش “محرّم” في قابل السّنوات، مع الدّعم المالي والإعلامي والثقافي الذي يُتوقّع أن يرافق المشروع، من جهات تَنضمّ إليه رضوخا لإغراءات وإملاءات الولايات المتحدة التي ستكون -عبر أذرعها- من الرعاة الرسميين لـ”البيت الإبراهيميّ”.. والحلم المنشود وغير المعلن هو أن تنجح “الديانة الإبراهيمية” في زحزحة الإسلام عن صدارة "الأديان" الأكثر والأسرع انتشارا في العالم، بالتزامن مع استواء مشاريع أخرى بداية من عام 2030م، بعد أن فشل مشروع "الحرب على (ما يسمى) الإرهاب" الغربي في وقف انتشار الإسلام.
فكرة مشروع “البيت الإبراهيميّ” في نسخته المعاصرة، ليست وليدة هذا العام، فقد ظهرت سنوات قليلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، مع البوادر الأولى لفشل المشروع الغربي في الصدام المباشر مع الإسلام، إذ أطلقت مبادرة “مسار الحج الإبراهيمي” أو “مسار الخليل إبراهيم”، في عام 2004م، لتتبّع خطى النبي إبراهيم -عليه السلام- التي اختُصرت في رحلته من جنوب تركيا إلى الخليل الفلسطينية ومنها إلى صحراء النقب، مرورا بالأراضي السورية والأردنية.. ما يعطي إشارة واضحة إلى اليد اليهودية التي تقف خلف هذه المبادرة لتجسيد المشروع الصهيونيّ!
ولذلك، فإنّ تجريد القضية الفلسطينية من بعدها الإسلاميّ، يعدّ واحدا من أهمّ أهداف مشروع “الديانة الإبراهيمية”، إذ يقوم على إلغاء مبدأ “الأحقّية” أو “أصحاب الحقّ الأصلي” في فلسطين، ليصبح الخلاف “الإسلامي- اليهودي” حول فلسطين، غير مبرّر مادام المختلفون ينتمون إلى العائلة “الإبراهيمية” نفسها، ومن ثمّ يتسنّى للصّهاينة الذين لا يؤمنون بأيّ حقّ آخر في فلسطين غير الحقّ اليهوديّ المضيُّ قُدما في مشروع التهويد بغطاء ديني وسياسي، ولعلّ هذا ما يفسّر الخطوة التي أقدمت عليها منظّمة “الأونروا”، عقب إعلان الرئيس الأمريكي السّابق “دونالد ترامب” "يهودية القدس"، حين حذفت عبارة “القدس عاصمة فلسطين” من المقررات الدراسية بمدارسها، واستعاضت عنها بعبارة “القدس المدينة الإبراهيمية”!
وإذا اتّضحت هذه الحقيقة، أمكننا أن نفهم خرجات الناطق الرسمي للجيش الصهيوني، “أفيخاي أدرعي” الذي دأب على الاستشهاد في منشوراته وتصريحاته الإعلامية بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، يوظّفها في دعوة المسلمين لقبول مشروع الاستسلام والاعتراف بـ”الحقّ الصهيونيّ” تحت المظلّة الإبراهيمية! وما قيل عن “أفيخاي أدرعي” يقال كذلك عن جيش كامل من الصهاينة والمتصهينين، ينشط في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل لتخفيف جرعة الإنكار المركّزة التي قوبل بها مشروع “البيت الإبراهيمي”، ويكاد يتفق في محصلة خطابه مع أجنحة أخرى يعتمد عليها هذا المشروع ليشقّ طريقه في العالم الإسلاميّ.
يجنّد سدنة المشروع الإبراهيميّ فئاتٍ كثيرة لخدمة أجندتهم، في مقدّمها ومن أخطرها فئتان: أوّلهما ما يُصطلح عليه في الأوساط الغربية بـ”رجال الدّين المستنيرين”، وهم لفيفٌ من الدعاة الجدد والمدجّنين فكريًّا، تفتح لهم القنوات أبوابها وتسلّط عليهم أضواءها، وتسبغ عليهم أفخم الألقاب، ليؤدوا دورهم المنوط بهم في محاولة تنحية النصوص التي تقف حجر عثرة في طريق المشروع، بطرحها وعزلها إن كانت من السنّة ولو كانت متواترة، وإعادة قراءتها إن كانت من القرآن؛ فهذه الدعوات التي نسمعها صباح مساء في القنوات والمواقع، على شاكلة الدّعوة إلى إعادة النظر في مصادر الحديث، وإعادة قراءة وتفسير النصوص القرآنية، ليست دعوات بريئة يراد من خلالها “محاصرة (ما يسمى) التطرّف” كما يروِّج له أصحابها، إنما هي دعواتٌ لتدجين الإسلام وإلغاء خصوصياته التي تميّزه عن الأديان المحرَّفة والديانات الوضعية.
الفئة الثانية التي يعتمد عليها النظام العالمي في التبشير بـ”الديانة الإبراهيمية” هي لفيفُ العلمانيين الذين يروِّجون لفكرة “المساواة بين الأديان”، واعتبارها “شأنا شخصيا” يحكم علاقة الإنسان بخالقه، ولا دخل له بعلاقة الإنسان بالآخرين ولا حتى بالحياة، ويبشّرون بـ”الإنسانية” (الوجه الآخر للإبراهيمية) لتكون المظلّة المشتركة لأتباع الأديان والديانات!
لقد بات واضحا أنّ مشروع “بيت العائلة الإبراهيمية” المشبوه لقي معارضة قوية لم يكن سدنتُه يتوقّعونها، إذ أعلن علماء الأمّة الإسلامية وأعلنت الاتحادات العلمائية، وعلى رأسها الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين، أنّ قبول مشروع “البيت الإبراهيميّ” يعدّ كفرا بدين الإسلام الذي دعا إليه إبراهيم -عليه السلام- والأنبياءُ جميعا.