فلسطين أون لاين

تقرير 21 عامًا.. وقلب الحاجة مريم يكابد مرارة الشوق والحرمان

...
الحاجة مريم عويس والأسيرين الشقيقين عبدالكريم وحسان عويس
جنين – غزة/ فاطمة الزهراء العويني:

ما زالت الحاجة مريم عويس تعاني تبعات عام 2002م الذي لم يكن يومًا عاديًا بالنسبة لها، ففيه انقلبت حياة عائلتها رأسًا على عقب، وتعاقبت الأحداث التي انهمرت على رأسها حتى أنها لا تصدقُ حتى اللحظة أنها استطاعت تحمّل كل ما حدث لها فيه.

تحاول تناسي تلك اللحظات الأليمة، غير أن بقاء فلذتيْ كبدها "عبد الكريم وحسان" في سجون الاحتلال منذ ذلك الوقت ينغِّص عليها تلك المحاولات.

استذكار أحداث عام 2002م ليس سهلًا البتة، فكان التواصل مع الحاجة مريم في يوم المرأة العالمي مفعمًا بالمشاعر الجياشة، وكأن الأرض دارت بها، إذْ كانت قد استهلّت ذلك العام باغتيال طائرات "الأباتشي" الإسرائيلية نجلها سامر في التاسع من مارس، لم تكنْ قد أفاقت بعد من صدمتها حتى تعرضّ ابنها عبد الكريم في السادس والعشرين من فبراير للاعتقال بعد نجاته من عدة محاولات "إسرائيلية" لاغتياله.

ولم تمضِ سوى أيام حتى اعتقل الاحتلال في التاسع من إبريل نجلها الآخر "حسان" في أثناء اجتياحه مخيم جنين، حيث تعيش، قبل أن يعود الاحتلال إلى مداهمة منزلها واعتقال زوجها وابنتها وثلاثة آخرين من أبنائها.

خضع زوجها وابنتها لتحقيق مكثف قبل الإفراج عنهما، لكن الاحتلال حكم على ابنيْها "يونس وبشار" بالسجن ثلاث سنوات ونصفًا، أما ابنها أحمد الذي كان قاصرًا آنذاك فاعتُقل لسبع سنوات.

يأتي صوت الحاجة مريم عبر الهاتف متقطعًا متحشرجًا بالدموع وهي تحدّث "فلسطين" عن تلك السنوات التي شهدت اعتقال خمسة من أبنائها، "كنتُ أتنقل بين سجون النقب وشطة وهداريم وجلبوع ومجدو وريمون وعسقلان، أقسِّم الزيارات بين أبنائي الخمسة، كانت أيامًا صعبة جدًا".

شوق مستبد

وما يزيد ألمها أنّ تلك الإفراجات لم تشمل عبد الكريم الذي حُكم عليه بالسجن ستة مؤبدات (المؤبد 99 عامًا) إضافة إلى 25 عامًا، وحسان الذي حكم عليه بالسجن مؤبدين و30 عامًا. ومنذ تلك اللحظة وقلب مريم سجينٌ مع ابنيْها اللذيْن قاربا على دخول عامهما الثاني والعشرين في الاعتقال.

أقعد المرض والدهما عن زيارتهما، والذي لم يتمكن من رؤيتهما سوى مرة أو مرتين في السنة؛ لسوء وضعه الصحي وبُعد المسافة وإجراءات الاحتلال المذلة والمعقدة التي يتعرض لها أهالي الأسرى، ما جعل الحاجة مريم تتحامل على مرضها وتعبها وكبر سنها في كل مرة وتشد الرحال إلى ابنيْها اللذيْن يقبعان حاليًا في زنزانة واحدة في سجن "ريمون".

تقول الحاجة مريم: "أحرص على ألا يشعرا بالوحدة ولكن لا أدري إلى متى يمكن أن تسعفني صحتي بزيارتهما، وهل سيسعفني العمر لأعيش وأراهما حرَّين طليقَين؟ نعلق آمالنا على صفقة تبادل نأمل أن تنفذها المقاومة في غزة مع الاحتلال، أدعو الله أن يكتب لي احتضانهما ولو لمرة واحدة قبل أن يدركني الأجل".

ولم تكن رحلة الاعتقال الطويلة سهلة؛ فقد كابدت وعائلتها مرارة الشوق والحرمان وإجراءات الاحتلال التعسفية التي طالت حرمانها من زيارة أبنائها لمددٍ طويلة كانت أكثرها خمس سنوات متتالية.

وانهمرت دموع الحاجة مريم عندما تذكرت اللحظات الوحيدة التي سُمح لها باحتضان ولديْها في سجون الاحتلال قبيل عشر سنواتٍ من الآن، حينما أدخلوها إليهما لتلتقط صورًا فوتوغرافية معهما، "بمجرد أنْ استطعتُ لمسهما، دخلتُ في حالة هستيرية من البكاء، فقدتُ الوعي على إثرها، لم أستطعْ تحمُّل حرارة اللقاء حينها (...) ولكنني أتمنى اليوم أن تُعاد تلك اللحظة".

ومنذ أكثر من عشرين عامًا لم تكتمل مظاهر الفرح في قلب الحاجة مريم، إذ تقول: "حدثت لديّ مناسبات سعيدة عديدة، زوجتُ أشقاءهم، وتخرجوا من الجامعات، مرت أعيادٌ، وحفلات زفاف، وغيرها لم أشعر فيها بالفرح، وأنا أرى أبناء عبد الكريم وحسان يكبرون دون أنْ يكون أباؤهم بجانبهم، لقد أصبح هناك أحفاد لدى عبد الكريم، لم يرهم حتى الآن".

نسخة مصغرة

ورغم صعوبة رؤية أحفادها يكبرون بدون آبائهم، فإنهم في الوقت نفسه يمثّلون بالنسبة لها "تسليةً لها" عن غياب والديْهم، "فـ"نجيب" ابن عبد الكريم وشادي ابن "حسان" نسخة مصغرة عن والديْهما، "أشتم منهما رائحة ابنايْ، وأحضنهما كأني أحضن أبويْهما".

ويحاول أبناء الحاجة مريم تخفيف ألم قلبها وشوقها لابنيْها الأسيريْن إذ يجتمعون لديها صباحًا، فيما تجتمع بناتها المتزوجات لديها مرة كل أسبوع، "يحاولن ألا يتركنني وحيدة، حتى لا أسرح في أفكاري وتخيلاتي، أدعو الله أن يلتم الشمل قريبًا بتحرر عبد الكريم وحسان".

وتعد الحاجة مريم الحديث عن "يوم المرأة" في ظل ما تكابده هي وأمهات الأسرى جميعًا من ألم، "هراء لا طائل منه"، وتقول: "ألا ينظر هذا العالم للأحكام الخيالية المفروضة على أبنائنا، ولشوقنا وعذاباتنا ومعاناتنا في الوصول إليهم وزيارتهم، وحرماننا من احتضانهم؟!".