"بيت مرسم".. كنز أثري يضم بين جنباته آثارًا من جميع الحضارات التي نشأت على أرض فلسطين المحتلة، منذ أنْ أشرق فجر الحضارة الإنسانية في الأراضي المقدسة بعد أن وطِئتها أقدام المهاجرين الساميين من شبه الجزيرة العربية لتتوالى عليها الحضارات والطامعون في مكانتها الدينية، وفي كل مرحلة تركوا أثرًا لهم في القرية، ما جعلها مطمعًا للاحتلال الإسرائيلي بحثًا عن "قشة" يمكن أن تثبت لهم وجودًا في هذه الأرض.
مؤرخ القرية وأحد سكانها علي أبو عرقوب يبين أن "بيت مرسم" بنيت قبل خمسة آلاف عام، حينما قدم الساميون العرب من شبه الجزيرة العربية لبلاد الشام، وأسسوا فيها القرى والمدن والممالك، حيث كانت قرية بيت مرسم الحالية واحدة من الممالك التي أسسها الكنعانيون قديمًا.
ويلفت إلى أن القرية حملت العديد من الأسماء، منها: بيت سيفر، أو قرية السفر، وتل سفر، وتعني هذه الأسماء المدرسة أو مخزن الكتب، كما كان يطلق عليها اسم تدبير بمعنى مقدس، حيث كانت مركزًا لتعليم الديانة الكنعانية، فقد عثر على عشرات قطع الآلهة التي كانوا يعبدونها مثل العشتروت وبعل، وأطلق عليها اسم بيت سِنا بمعنى مدينة النخيل.
ويلفت إلى أن القرية كانت تصل بين مصر والشام، وفي مرحلة ما كانت مملكة ترأس مدن وسط فلسطين وجنوبها، ما جعلها محط اهتمام علماء الآثار في العالم حيث عملت فيها بعثات تنقيب أمريكية وبريطانية وأوروبية في المراحل بين (1885- 1890م) و(1924-1934م).
معركة بيت مرسم
ويقول أبو عرقوب: "كان هدف الحفريات البحث عن جوهرة عليها سنابل مكتوب عليها باللغة المصرية القديمة مذكورة في النقوش الموجود في معابد مصر، حيث قدمها ملك مصر تحتمس الثالث لابنته التي تزوجها أحد أبناء القرية وعثروا عليها في عام 1934م".
ويشير أبو عرقوب إلى أنه في البحث اكتشف العلماء العديد من العصور، الكنعانية، والرومانية، واليونانية، والفينيقية، والبيزنطية، والعثمانية، كما تعرضت القرية لغزوات من الملوك سنحاريب، ونبوخذ نصر الثاني، ويوشع بن نون.
وفي عام 65-66م وقعت معركة بيت مرسم الشهيرة بين أهل القرية والعصابات الصهيونية حتى أن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين تحدث في مذكراته التي أرّخت لتلك المرحلة أنه لم يذق صعوبة في معارك الصهاينة في فلسطين كما رأى في تلك المعركة.
وبعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية قام علماء آثار إسرائيليون بحملة تنقيب واسعة في القرية بين الأعوام (1978 – 1985م) واكتشفوا عشرات الآلاف من الأواني الفخارية والقبور الكنعانية وآثار من العصور البرونزية والبيزنطية واليونانية".
وتعمد الاحتلال، وفق أبو عرقوب، تدمير القرية بالمدفعية في اليوم الثالث لاحتلاله للضفة الغربية، ولم يتبقَّ من أراضيها بعد الاحتلال الإسرائيلي وجدار الفصل العنصري سوى 3% من مساحتها الأصلية.
ويبين أن سلطات الاحتلال نهبت القرية بآثارها وهي تلاحق أيضًا بقية الآثار الموجودة بيد الفلسطينيين حيث تراقب المنطقة بكاميرات مراقبة وتتدخل فورًا ما يسمى بـ"سلطة الآثار الإسرائيلية" حال رؤية أي أعمال تنقيب.
ويتابع بالقول: "يوجد في المساحة المتبقية العديد من القبور للعهود الكنعانية والبرونزية وصهاريج محفورة في الصخر، وأكثر من 100 مغارة وآبار من العصر الروماني ومعاصر للزيت وغيرها".
وأشار إلى أن "الآثار الإسرائيلية " نقبت في أحد الأماكن الأثرية بالقرية ووجدت مبنى من طابقين "مقام النبي حنظل"، الطابق الأرضي منه مسجد، والعلوي كنيسة مرصعة بالفسيفساء، فطمرتها بالأكياس المملوءة بالرمال والبلاستيك بعدما لم تجد أي دليل يربط اليهود بالمكان.
تفتقد الحماية
في حين يبين رئيس مجلس قروي تجمع البرج وبيت مرسم يوسف تلاحمة أن قرية بيت مرسم التي تعد إحدى قرى مدينة دورا بمحافظة الخليل، تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة الخليل على بعد 30 كم من مركزها، ويحدها من الشرق والشمال قرية بيت الروش الفوقا، ومن الغرب والجنوب قرية البرج والجدار العازل، وتفتقر لحماية فلسطينية رسمية لآثارها من نهب الاحتلال الإسرائيلي.
وينبه إلى أن من أهم الأماكن الأثرية والتاريخية في القرية مقام النبي حنظل الذي تعمد الاحتلال دفنه، و"تل بيت مرسم" الذي يروي حكاية حضارات تعاقبت على فلسطين منذ آلاف السنين، (يقع حاليًا في الجزء المحتل عام 1967م).
ويؤكد تلاحمة أن سلطات الاحتلال كرست ضم تل بيت مرسم بالجدار العازل عام 2004 ليصبح قبلة للباحثين والأكاديميين الإسرائيليين في حين يمنع الاحتلال الفلسطينيين من الوصول إليه.
ويلفت إلى أن موقع التل يعد من أهم المواقع وأقدمها بفلسطين، فهو يعود للعصر الحجري الحديث، أي في الألف الثامن قبل الميلاد، وهي الحقبة ذاتها التي أُسست فيها مدينة أريحا، وكان يمثل هذا التل نقطة عبور بين بلاد الشام ومصر حيث كانت القوافل التجارية تمر عبر وادي البيارة إلى مصر.