ليس جديدًا أن تتابع سلطة التخابر الأمني سياساتها الكارثية في التقاسم الوظيفي الآسن مع عدو الشعب الفلسطيني الذي يستهدف وجودَهُ المادي على أرضه الوطنية .
وهذه السلطة المتآمرة، لا تعود إلى نهجها الفاشل –كما يدمدم بعض "القادة" الفلسطينين- إنما توغل عميق في ذات نهجها المُدمر الذي رسمه لها بعناية العدو الصهيوني الذي صاغ صَك إذعان أوسلو كلمة، كلمة، لتلبية أهدافه.
واجتماع العقبة، جاء تمامًا في هذا السياق، لإنجاز هدف مشترك أوحد، وهو القضاء على الشعب الفلسطيني ومقاومته، أضغاث أحلام تعيشها (تل أبيب)، منذ أكثر من 75 عامًا، دون أن تُحقق سوى صفر كبير.
سلطة عباس، وهي تتداعى تجد ضالتها في إسناد العدو كي يبقى أوغاد المقاطعة قادرين على البقاء، وأداء دورهم المرسوم خدمة للكولونيالية الصهيونية، ولليانكي الأمريكي الذي يدير حروب إبادة عرقية على مدار خمسة قرون ونيف وحتى الغد.
ولم يرع وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، حتى قبل فض اجتماعات العقبة أعمالها بتصريح فيه كل غطرسة العدو بقوله "لن نوقف الاستيطان، ولن نوقف التخطيط لبناء المستوطنات ليوم واحد"، وقد أكد نتنياهو ذلك.
أمّا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، فكان أكثر فجاجة ووضوحًا حين أكد أن "ما حدث بالأردن، يبقى في الأردن".
رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وفي لقاء جَمَعَهُ مع أعضاء حكومته الأكثر فاشية، قبل عقد مؤتمر العقبة ومغادرته فلسطين المحتلة، فقد أطلق العنان لهم للاستمرار في التصعيد، وقد منح سموتريتش الضوء الأخضر لفعل ما يراه ملائمًا في الضفة الفلسطينية المحتلة وباستمرار اعتداءات المستوطنين على مُختلف المدن والقرى والمخيمات فيها بالاجتياحات، وحرق البيوت، والإعدامات الميدانية واستباحة كل شيء بحماية وإسناد جيش الاحتلال النازي.
ولم يكن مفاجئًا لعاقل، أن يأتي مؤتمر العقبة وبمشاركة سلطة عباس فيه بعد أيام من المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في مدينة نابلس التي استشهد فيها 11 فلسطينيًا من المدنيين والمقاومين.
كما حاول القيادي في حركة "فتح"، منير الجاغوب ذَرَّ الرماد في العيون، حين نَعَقَ بأن هناك التزامًا من الجيران (الصهاينة) بوقف الاعتداءات، وأن وفد الاحتلال وضع تعهدات بذلك، وبضمانات (حازمة) أمريكية.
ولكن بن غفير رَكَلَ الجميع، حين دَفَعَ الآلاف من المستوطنين والحرس الوطني وحرس الحدود، الذين شاركهم أيضًا كتائب كثيرة من وحدات النخبة ليحرقوا الأخضر واليابس وليعتدوا على الأطفال والنساء، وقد قال "إن أمن (إسرائيل) يعلو على كل الاتفاقات".
كما علَّق مسؤول استخباراتي أمريكي ساخرًا، بأن الاتفاق الشَّفهي في العقبة لا يساوي الورق الذي كتب عليه، في الوقت الذي ندد فيه كلًا من سموتريتش وبن غفير بمؤتمر العقبة وكل ما نجم عنه، وعدّا نفسيهما في حلٍّ من كل مُتعلقاته، بالرغم من أنه بكل ما فيه لمصلحتهم.
وقد عبَّر عن تشاؤمه، السفير مارتن إنديك، المبعوث الأمريكي السابق "لعملية التسوية"، في الشرق الأوسط، والخبير حاليًا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، الذي قال في تغريدة له "أخشى أن يكون قد فات الأوان".
أما روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط، فقد ذكر أن "هناك أمرين واضحين: (أ) السلطة الفلسطينية أَمْسَت غير قادرة على أداء واجبها في تأمين المناطق التي تُسيطر عليها، (ب) والحكومة في (تل أبيب) لا تتصرف كما لو أن لديها مصلحة في منع انهيار السلطة، وهذا حالٌ لا يُمكن التنبؤ بمخاطره الجمة".
ولكن بضع ساعات فقط على توقيع اتفاق العقبة، كانت كفيلة بأن تكشف للمرة المليون جوهر هذا الكيان المؤقت منذ التأسيس حين اجتاحت قوات الاحتلال المدن والمخيمات الفلسطينية، ليرتقي الشهداء من بين الأنقاض.
وتحت وطأة حالة الاحتقان السائدة اليوم، والاستنفار الذي يصل حدوده القُصوى، وتصريحات قادة العدو الفاشيين، تُثار تساؤلات كثيرة، بشأن السيناريوهات التي ستَسم المشهد السياسي في المنطقة، وهل سيشهد قادم الأيام المزيد من الانفجارات، وقد وُلِدَت تفاهمات "العقبة" التآمرية ميتة، وهي التي أسفرت عن وجهها القبيح فورًا ودون رتوش مُدَّعاة.
لقد بدأت سلطة عباس مُسلسلها الجديد حين سحبت مشروع رفض الاستيطان من مجلس الأمن قبل أيام، وهي في كل الأحوال كانت معنية وعلى امتداد عقود استطالت تقاتل المقاومة حتى انتشر الاستيطان كالفطر وأصبح العدو بمستوطناته ومعسكراته، وحواجزه وطرقه الالتفافية ومناطقه الأمنية يحتل أكثر من 89% من التراب الوطني.
وتشير الأحداث المتسارعة، في فلسطين المحتلة، من أقصاها إلى أقصاها، أن الشعب الفلسطيني الصابر، المرابط، والمقاوم، يعيش انتفاضة يَتَّقِدُ أوارها وتنتشر على كل الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية بمَوجات متلاحقة، تقض مضاجع العدو، وتأتيه من حيث لا يحتسب، تمامًا، كما جرى في المنطقة الأكثر حساسية والأخطر أمنيًا، جنوب مدينة نابلس وتزامنًا مع مؤتمر العقبة، وبعد 5 أيام من ارتكاب الجيش الفاشي "مجزرة نابلس"، حين نفّذ فارس من رجالات فلسطين "عملية حوارة"، التي أسفرت عن مقتل مستوطنين اثنين يقطنان مستوطنة "هارا براخا" قرب حوارة في حين ما يزال البطل حُرًا طليقًا، وقد صَدَمت هذه العملية العدو وفاجأته بمكانها وتوقيتها وسرعة تنفيذها والتماسك ورباطة الجأش لمُنِفذها، وانسحابه الهادئ من المنطقة.
وقعت العملية وسط شارع حوارة، في مكان يوصف بأنه مُربع أمني لجيش العدو ومستوطنيه، فهو يبدأ بحاجز حوارة العسكري وينتهي بنظيره حاجز زعترة، وتعلو طرفيه مستوطنات وبؤر "يتسهار" و "هار براخا" الأكثر عنفًا ودموية التي جاء منها من أعدمهما المجاهد، وذلك فضلًا عن معسكر حوارة الذي يتخذه جيش الاحتلال مقرًا له ومركزًا مؤقتًا لتوقيف الأسرى الفلسطينيين والتحقيق معهم.
ونقلت قناة "كان" الإخبارية، أنه عُثِرَ بموقع العملية على 12 رصاصة من عيار "9 مليمترات"، وأن المنفذ قد أطلق رصاصاته من مسافة صفر، بعد أن تيَقن من نجاح عمليته المباركة، ردَا على عربدة سوائب المستوطنين وقطعان جنود الاحتلال.
العدو يغلق مدينة نابلس وقرى المحافظة لليوم الرابع على التوالي، وينشر جيشهُ ومستوطنيه، ويُغلق مداخل حوارة بالسواتر الترابية، ويوقع العشرات من الجرحى بالرصاص الحي، كما يواصل فرض طوق أمني مُحكم على مداخل ومخارج مدينة أريحا، وتقوم قوات العدو بنشر الحواجز العسكرية بعد العمليات الجريئة لرجال المقاومة التي أدت إلى إعدام مستوطن صهيوني يحمل الجنسية الأمريكية، وجرح عدد آخر من مستوطنيه بعد أن ولوا هاربين من المكان.
ولم يَزَل العدو يُعزز قواته في عموم ضِفة الهَنود بالوحدات العسكرية وسرايا قواته الخاصة، وقد أضاف كتيبة رابعة لقواته المتمركزة الثابتة في محافظة نابلس وحدها.
محاولات يائسة، وبائسة، لوقف الانتفاضة المتعاظمة، والعمليات العسكرية التي زادت عن 1200 في شهر شباط المنصرم، وإعدام أكثر من 14 جنديًا ومستوطنًا، حسب ما أقرَّ به المحتل عدا أولئك القتلى الذين يكشف عنهم وكعادته في حوادث السيارات التي زادت عن معدلاتها السنوية.
عضو في الكنيست يدعو لحرق حوارة، وآخر ينادي بمحوها من الخارطة تمامًا، والجيش الذي يُغطي ويَدعم هجمات الآلاف من المستوطنين في حوارة وزعترة وبيتا، وبيت لحم، والخليل وقراها وفي القدس ومحيط رام الله، يُنبئُ بأن زلزالًا مُحتمًا قادم وقريب، وعلى الضفة المقابلة، المقاومة تتصاعد، وتنشر في كل مكان، وخطط تفعيل لجان الحماية الشعبية تبدأ فِعلها، إلى جانب تنظيم الفعاليات الشعبية الواسعة، وامتلاك زمام المبادرة والهجوم، وهذا هو وعد الحاضنة الشعبية لتعزيز كل أشكال النضال المنتصر حتمًا بإذن الله.