انفض الاجتماع الأمني الذي عُقد قبل أيام في مدينة العقبة الأردنية بمشاركة ممثلين عن الولايات المتحدة الأمريكية، وكيان الاحتلال، ومصر، والأردن، والسلطة الفلسطينية، وعلى الرغم من البيان الدبلوماسي الذي أعلن في ختام هذا اللقاء والتوافق على عقد اجتماع آخر في شرم الشيخ المصرية خلال الأسابيع المقبلة، إلا أن الهدف الواضح من هذا اللقاء هو حماية حكومة نتنياهو المتطرفة من الانهيار، وإعادة إحياء الدور الخبيث للسلطة الفلسطينية في محاربة المقاومة الفلسطينية في الضفة، مقابل أموال، وأسلحة، وامتيازات اقتصادية، ضمن تفاهماتٍ أمنيةٍ وسياسية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
واقع الحال يشير إلى أن نتائج الاجتماع وتفاهمات العقبة وُلدت ميتة، فحكومة نتنياهو تنصّلت عبيد انتهاء الاجتماع من أي التزام بتجميد الاستيطان في الضفة، وأقطاب هذه الحكومة الإجرامية دفعوا أتباعهم لإحراق الأرض في الضفة، من خلال شن أكثر من ثلاثمئة هجوم إرهابي على الفلسطينيين، وإحراق عشرات المنازل والمركبات في ظل إسناد واضح من جيش الاحتلال الذي هيأ الأجواء للمستوطنين للقيام بهجومهم الهمجي على بلدة حوارة في نابلس، وتدخل بعد ساعات طويلة من انتهاء الهجوم.
وفي ظل تصاعد عدوان جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه على أهلنا في الضفة المحتلة، وارتكابهم على مدار أسابيع قليلة جرائِم إبادة أسفرت عن استشهاد العشرات وإصابة المئات من أبناء الشعب الفلسطيني الصامد، يأتي هذا الاجتماع الأمني محاولة ميؤوسة لتطبيقِ خطّةِ الجنرال الأمريكي (مايكل فينزل) الهادفة للقضاء على المقاومة في الضفة المحتلة، وهو حلقة ضمنَ سلسلةِ مخططات صهيونية أمريكية سابقة، هَدَفت جميعُها إلى التآمرِ على الشعب الفلسطيني، والقضاءِ على المقاومة الفلسطينية، وإنهاءِ الصراع مع الاحتلال، ومن بين تلك المخططات الغادرة: خطّةُ المبعوثِ الأمريكي السابقِ للشرق الأوسط (جورج ميتشل) التي أطلقها سنة 2001م بهدف استئناف التعاون الأمني بين السلطةِ الفلسطينيةِ وجيشِ الاحتلال، وكذلك خطةُ مديرِ وكالةِ المخابراتِ المركزيةِ الأمريكية "جورج تينيت"، التي هَدَفت سنة 2001م إلى تعزيزِ التنسيقِ الأمني، ودفعَ السلطة الفلسطينية نحو محاربةِ المقاومةِ الفلسطينية، وأيضًا خطةُ المبعوثِ الأمريكي "أنتوني زيني"، التي هدفت سنة 2001م إلى تطبيقِ "خطةِ تينيت" الأمنية، وأيضًا خارطةُ الطريقِ التي أعلنتها وزارةُ الخارجية الأمريكية سنة 2003م، وكانت تهدف إلى محاربة المقاومة الفلسطينية، وتشجيع التطبيع بين السلطة والاحتلال، وكذلك خطةُ الجنرالِ الأمريكي "كيث دايتون" سنة 2007م، التي هدفت إلى إعادة تسليحِ وتدريبِ أجهزةِ السلطةِ الفلسطينية، ودفعها نحو محاربةِ المقاومة والقوى الفلسطينية المناهضةِ للتنسيق الأمني، وأيضًا "صفقةُ القرن" التي أعلنها الرئيسُ الأمريكي السابق "دونالد ترامب" بهدف القضاءِ على المقاومةِ الفلسطينية، وحسمِ الصراع لصالح الاحتلال، لكن الشعب الفلسطيني أثبت من خلال مقاومته المتصاعدة أن جميعَ المخططاتِ التآمريةِ التي تتجاوزُ الحقوقَ الفلسطينيةَ الثابتةَ والتاريخية في الأرضِ الفلسطينية سيُكتَبُ لها الفشلُ الذريعُ بفِعْلِ الثباتِ والصمود الفلسطينيين، واعتماد خيار المقاومة.
لقد تجاهل المجتمعون في العقبة الأمني جرائم الاحتلال التي أدت إلى استشهاد ستة وستين مواطنًا فلسطينيًّا أعدمهم جيش الاحتلال بدم بارد منذ مطلع عام 2023م من بينهم أطفالٌ ونساءٌ وأسرى في سجون الاحتلال، وأصاب مئات الأبرياء بجراحٍ متفاوتة في ظلِّ صمتٍ دولي، مُتواطئٍ في كثيرٍ من الأحيان، مما شجعَ حكومةَ الاحتلالِ الفاشيةِ المتطرفةِ إلى ارتكابِ المزيدِ من جرائمِ التهجيرِ القسريِ وتشريدِ الفلسطينيين، وهدمِ منازلهم ومُنشآتهم في العديد من مناطق الضفة والقدس ولا سيما مَسافر يطّا في محافظة الخليل، والخان الأحمر والشيخ جراح في مدينة القدس، بما يشكلُ انتهاكًا فاضحًا لكل المواثيقِ والاتفاقياتِ الدوليةِ التي تُعْنَى بحقوقِ الإنسان الدولية.
كَما تجاهلوا تصاعد العدوان المتواصل ضدّ أهلنا في مدينة القدس المحتلة، واستمرار اقتحاماتِ المستوطنين اليومية لباحاتِ المسجدِ الأقصى المُبارك، وتصعيد عمليات القمعِ والمداهماتِ للأحياء والبلدات العربية في القدس، وتضييق الخناقِ على المقدسيين، وتصاعد حملات الاعتقال العشوائي ضدّ الشبابِ المقدسي، ومواصلة سياسة الإبعاد عن المسجد الأقصى، وفرض الحصارِ والاعتداءات الجماعيةِ على مخيمِ شعفاط، والبلداتِ والأحياء المقدسية، في محاولةٍ فاشلةٍ للانتقامِ من المقدسيين بعد عمليات القدس البطولية، ضمن خطةٍ صهيونيةٍ لإجهاضِ المقاومة الشعبية المتنامية في القدس، وحالةِ العصيانِ المدني التي باتت تنتشرُ في كل البلدات والأحياء المقدسية ردًا على عدوان الاحتلال وعنجهيةِ حكومةِ نتنياهو الفاشيةِ الإجرامية.
وفات المجتمعين الأمنيين أيضًا الالتفات إلى تصاعدِ الهجمةِ الصهيونيةِ ضدّ الحركةِ الأسيرة، واعتمادِ حكومةِ نتنياهو الإجراميةِ سياسة التضييقَ على الأسرى الأبطال، وحرمانهم من أبسطِ مُقوماتِ الحياة، كَمَنعِ الدواء والعلاج الطبي عن المرضى منهم، والذين هم في أمس الحاجة للعلاج، بالإضافة إلى طرح قانون إعدام الأسرى للمناقشة والتصويت، ضمنَ مخططٍ غادرٍ للانتقامِ من الأسرى وتصفيتِهم، وقتلِهم بكلّ الطرقِ والوسائل المتاحةِ لحكومة الاحتلال.
يمثل اجتماع العقبة الأمني مؤامرة جديدة على القضية الفلسطينية، حيث جاء هذا اللقاء الأمني بعد ساعات من إعلانِ حكومةِ الاحتلال عن المُصادقةِ على بناء (7287) وحدةٍ استيطانيةٍ جديدةٍ في الضفة والقدس، بما يعادل 164% من إجمالي الوحداتِ الاستيطانيةِ التي تمّت المصادقةُ عليها طوال عام 2022م، إضافةِ إلى شرعنةٍ زائفةٍ لتسعِ بُؤرٍ احتلاليةٍ في الضفةِ المحتلة، بما تمثّلُه هذه الخطوةُ الاحلاليةُ من سَلْبٍ للحقوقِ الفلسطينية، ومصادرةِ أراضي وممتلكات أبناءِ الشعبِ الفلسطيني لصالحِ تلك البؤر الاستيطانية التي تمثل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
كما يمثل هذا الاجتماع المنبوذ في العقبة استجابةً مُهينَةً ممّن يحضرونه لضغوطات الإدارة الأمريكية الداعمةِ لكيانِ الاحتلال الصهيوني، وارتهانًا لمساعي الولايات المتحدة وكيانِ الاحتلال في إخمادِ جذوةِ انتفاضةٍ فلسطينيةٍ باتت تشكل رفضًا حقيقيًّا للمشروع الاستيطاني في فلسطين المحتلة، ولا سيّما مع تصاعدِ المخاوف الصهيونية باشتعال الساحات الفلسطينية كافّة في مواجهة عدوان الاحتلال، وتكرار معركة "سيف القدس" التي كشفت سوأةَ الكيانِ الصهيوني، وأظهرتْ فشلَ منظوماته الأمنية والعسكرية، ووحدت ساحات الصراع مع الاحتلال، وكسرت نظريةَ الردعِ الصهيوني، ما فاقمَ من حالة الانهزامِ النفسي والمعنوي لدى كل المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة.
يدرك جيدًا الفريقَ الفلسطيني الذي شارك في اجتماع العقبة نيابةً عن قيادة السلطة الفلسطينية إنّما يُمثلُ زمرةً من أصحابِ المصالح الذين ربطوا ورهنوا بقاءَهم ببقاء واستمرار الاحتلال، وقد أجمعت كل القُوى الفاعلة، والمكوناتُ السياسيةُ، والنُخبُ المجتمعيةُ، والحالاتُ الثوريةُ الفلسطينيةُ، على رفضِ المشاركةِ في هذا الاجتماع الأمني المهين، فالجهات الفلسطينية المشارِكة في اجتماع العقبة منبوذةً فلسطينيًّا، وفاقدةً لدعمِ وتأييدِ الشارعِ الفلسطيني، ولا تمتلك أيَّ شرعيةٍ قانونيةٍ تُؤهّلُها لتمثيلٍ الشعب الفلسطيني بحالٍ من الأحوال.
إن المطالب التي حَمَلها فريقُ السلطة الفلسطينية إلى اجتماع العقبة، التي نُشرت في عددٍ من وسائل الإعلام العربية، وتمثّلت بفتح الباب لتجنيدِ عشرةِ آلافِ جنديٍّ فلسطينيّ، وتدريبِ خمسةِ آلافِ عُنصر، والسماح بإدخال أسلحة ومعدات لأجهزة السلطة تعينها على مواجهة المقاومة المتصاعدة في نابلس وجنين وسائر المدن الفلسطينية في الضفة المحتلة، وتشكيل غرفة تنسيق مشتركة (فلسطينية إسرائيلية أميركية)، علاوةً على كَونِها تمثلُ خيانةً لتضحياتِ أبناءِ شعبنا، ودماءِ الشهداء، ودعمًا واضحًا للمشروع الاستيطاني في الضفة والقدس، ومحاولةً فاشلةً لإعادة تدجين الفلسطينيين، والقضاءِ على المقاومةِ الفلسطينيةِ المتصاعدةِ في الضِّفة، وتمثلُ في ذات التوقيت أيضًا وصفةً لحربٍ أهليةٍ فلسطينيةٍ المستفيدُ الوحيدُ منها هو جيشُ الاحتلال وقُطعانُ مُستوطنيه الذين يعيثُون فسادًا في مُدنِ وبَلداتِ الضِّفةِ المحتلة.
إن نجاحَ مجموعاتِ المقاومةِ في الضفة بتنفيذِ عمليات فدائيةٍ بطوليةٍ في بلدةِ حوارة في نابلس، ومحافظة أريحا والتي أسفرت عن قتل عدد من المستوطنين بالتزامن مع انعقاد اجتماع العقبة الأمني، وبعيد انتهائه إنما يمثلُ الردَّ الفلسطيني الأوضح على مؤامرةِ إجهاضِ الانتفاضةِ الفلسطينيةِ القادمة، ومُخططاتِ القضاءِ على جَذوةِ المقاومةِ الفلسطينيةِ المَشروعة، التي تتصاعدُ يومًا بعدَ يومٍ في الضفةِ المحتلة، وإصرارِ المُجتمعينَ في العقبة على المساواةِ بين الضحية الفلسطينية والمحتل الصهيوني، في إٍسنادٍ واضحٍ لحكومةِ نتنياهو المجرمة، وسياساتِها الإجرامية اليمينية المتطرفة، ومحاولة لتبرئتِها من الجرائمِ التي ارتكبتها مُؤخرًا في جنين ونابلس وأريحا ضد أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل.
ختامًا فإن تصاعدَ عدوانُ المستوطنين الصهاينة على أهلنا في الضفة المحتلة بعد انفضاض المُجتمعين في اجتماع العقبة الأمني، وإعلان حكومة نتنياهو خطة لبناء تسعة آلاف وخمسمائة وحدة استيطانية جديدة واستمرار اقتحام مُدنِ ومخيماتِ الضفةِ المحتلة، يؤكدُ من جديدٍ أن التفاهمات التي تمّ الإعلانُ عنها لا تساوي حبرًا على ورق، وأنّ مقاومة الاحتلال هي الخيار الوحيد لمواجهة العدوان الصهيوني، والمخططات الاستيطانية المتصاعدة في الضفة والقدس.