كانت معركة الكرامة التي وقعت بين قوات الثورة الفلسطينية والجيش الصهيوني بمنزلة عهد جديد للثورة الفلسطينية، إذ امتدت وانتشرت في كل أماكن وجود الشعب الفلسطيني، خاصة في المخيمات الفلسطينية التي تمركزت في البلدان العربية سوريا والأردن ولبنان، وأمام هذا الزخم الثوري الهائل، بدأت الثورة الفلسطينية باتخاذ إجراءات لتنظيم عمل الكفاح المسلح بما يستوعب هذا التطور الذي كان أبرز ملامحه إقبال الشباب الفلسطيني على الانضمام لقوات الثورة الفلسطينية أو ما كان يعرف وقتها بالكفاح المسلح.
كانت لبنان كدولة عربية حدودية من أكثر الدول التي استوعبت اللاجئين الفلسطينيين الذين تمركزوا في قرابة ستة عشر مخيمًا للاجئين الأمر الذي مثل عبئًا ثقيلًا على لبنان ليس من الناحية الاقتصادية فقط ولكن من حيث معادلة التوازن الطائفي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أدى تكريس وتكثيف الوجود الفلسطيني المسلح على الأرض اللبنانية إلى شعور الدولة اللبنانية بنوع من فقدان السيطرة الأمنية على أراضيها حيث ظهر تحرك قوات الثورة الفلسطينية على الأرض كأنه منازعة لقوات الثورة للجيش اللبناني في العمل على أرضه، الأمر الذي دفع قوات الجيش والشرطة اللبنانية إلى اتخاذ بعض الإجراءات ضد قوات الثورة الفلسطينية في شمال لبنان لإحكام سيطرة الجيش والشرطة الأمنية على المنطقة، لم يكن في وارد حسابات قيادة الثورة الفلسطينية أن تسلم بهذه الإجراءات، فانطلقت قوات الثورة الفلسطينية لتسيطر على قواعد الجيش ومخافر الشرطة في المنطقة التي جرى فيها تحرش الجيش اللبناني بقوات الثورة الفلسطينية؛ الأمر الذي استدعى تدخل الرئيس جمال عبد الناصر في حينه وتوقيع ما عرف باتفاقية القاهرة في 3 نوفمبر 1969م، التي نظمت الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان بما يضمن حرية العمل لقوات الثورة الفلسطينية على الأرض اللبنانية وحرية انتماء أبناء الشعب الفلسطيني لقوات الثورة الفلسطينية، وقد وقّع الاتفاق ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والعماد إميل البستاني قائد الجيش اللبناني.
ما سبق كان رد ياسر عرفات على كل محاولة للنيل من العمل الثوري الفدائي الفلسطيني عندما كانت الثورة الفلسطينية والكفاح المسلح هما السبيل الوحيد في عقيدة منظمة التحرير لتحرير الأرض الفلسطينية، ولذلك لم يكن يقبل في ذلك الوقت مجرد فكرة المس بالكفاح المسلح حتى من المستضيف لقوات الثورة واللاجئين الفلسطينيين، وهي الدولة اللبنانية بالجيش اللبناني أو أجهزة الأمن اللبنانية، بالرغم من أن الأرض هي أرض لبنانية والسيادة عليها سيادة لبنانية وبالرغم من أن الوجود الفلسطيني المسلح على الأراضي اللبنانية كان له تبعات خطِرة على لبنان كدولة، أقلها تكرار قصف الطائرات الصهيونية للأراضي اللبنانية والمناطق والمواقع الحيوية في لبنان.
في مؤتمر العقبة يجتمع من يدّعون أنهم يحملون إرث ياسر عرفات مع العدو الصهيوني ليتفقوا على القضاء على الثورة المسلحة التي تنتشر في مدن وقرى الضفة الغربية برعاية وإشراف أمريكي، بالرغم من أن الأرض التي تجري عليها المقاومة هي أرض فلسطينية محتلة، والشعب المقاوم هو الشعب الفلسطيني والمحتل هو العدو الصهيوني الذي يرتكب يوميًا مجازر ضد أبناء الشعب الفلسطيني، التي كان آخرها مجزرة نابلس.
المفارقة بين اليوم والبارحة أن قيادة منظمة التحرير بالأمس لم تقبل أن تتدخل الدولة اللبنانية أو تمس بأي حال من الأحوال بالثورة الفلسطينية والكفاح المسلح، بالرغم من أنها مستضافة على الأرض اللبنانية وتخضع للسيادة اللبنانية، وفي سبيل حماية الثورة الفلسطينية أصدرت قيادة منظمة التحرير قرارًا لقوات الثورة الفلسطينية باقتحام مواقع الجيش والشرطة اللبنانية في المنطقة التي حدث فيها التحرش بقوات الثورة الفلسطينية، وقد أسفر عن هذا التحرك السيطرة على عدد من مواقع الجيش اللبناني ومخافر الشرطة اللبنانية، واعتقال عناصر الشرطة والجيش الموجودين في تلك المواقع، ومصادرة أسلحتهم لصالح قوات الثورة الفلسطينية، وبلا شك فقد مثّل هذا التحرك إهانة شديدة للدولة والجيش والشرطة اللبنانية، وبالرغم من ذلك وُقعت الحكومة اللبنانية اتفاقية تحمي الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان.
اليوم نفس القيادة لنفس المنظمة مع اختلاف الأسماء وبعد مرور الزمن، توقع اتفاقية للقضاء على قوات الثورة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبمنطق الثورة الفلسطينية في عام 1969 كان الرد هو الاستيلاء على مواقع الجيش والشرطة التي حاولت أن تمس الثورة الفلسطينية، وإجبار الحكومة اللبنانية على توقيع اتفاقية تحمي الثورة والكفاح المسلح، فهل تتخذ الثورة المسلحة في الضفة الغربية اليوم ذات القرار الذي اتخذه ياسر عرفات عام 1969م؟