فلسطين أون لاين

في مجزرة نابلس

تقرير "إلياس الأشقر".. ممرض استُدعي لإسعاف حالة خطيرة فاكتشف أنه والده

...
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

متنقلًا بين الأسرَّة التي امتلأت بالمصابين في مستشفى النجاح الوطني بمدينة نابلس، لم يتوانَ الممرض الشاب إلياس الأشقر عن تأدية مهمته في إسعاف المصابين حينما استدعي لقسم الطوارئ، كان يقف على رأس حالة مصاب توقف قلبه بفعل رصاصة إسرائيلية اخترقت منطقة الصدر.

لم يلتفت الممرض لملامح المصاب بقدر فعل كل ما يطلبه منه جراح القلب، يخوضون سباقًا مع الزمن لمحاولة إعادة النبض له قبل أن تصمت نبضات قلب المصاب الخافتة، يقف كل الطاقم الطبي على رأس الحالة الخطيرة، قبل أن يُستدعى إلياس للمشاركة في إسعاف حالة أخرى بقسم الطوارئ.

مصابون يأتون على سيارات الإسعاف، دماء تملأ الأسرَّة وأرضية القسم، صراخ الناس، والممرضون يناولون الأطباء الحقن والمقصات الجراحية، وآخرون ينقلون المرضى لقسم الأشعة أو غرف العناية المكثفة، وأطباء يضغطون على قلوب المرضى يحاولون إنعاشهم.

هكذا كان المشهد في يوم دامٍ عاشه قسم الطوارئ بمستشفى النجاح الوطني بعد اقتحام قوات الاحتلال لمدينة نابلس صباح الأربعاء الماضي ما أسفر عن استشهاد 11 مواطنًا، منهم مسن، وإصابة أكثر من 100 آخرين بجراح مختلفة.

نظرة سريعة

رجع إلياس إلى جراح القلب، يحاول الاطمئنان على حالة المريض الذي كان يحاول إعادة النبض إليه، ليجيبه أنه: "استشهد"، ترحم عليه، كل شيء خرج بلا مقدمات أو تسكين للجروح وتمهيد للأخبار، قبل أن يذهب الممرض نحو سرير الشهيد محاولًا المشاركة في نقله لثلاجات الموتى والشهداء، كعادتهم لا يدقق الممرضون بملامح الموتى أو الشهداء، محاولينْ تجاهل مرارة المشهد وحذفه من ذاكرتهم.

اقرأ المزيد: بصورة ضخمة.. غزة تخلد شهداء مجزرة نابلس

نظرة سريعة ألقاها الممرض على جسد الشهيد، قبل أن يبدأ بإجراءات نقل السرير ثم اعتدل مدققًا النظر بصدمة وذهول تصلبت عيناه بكامل اتساعهما، لا يصدق ما يراه وكأنه في حلم، دوّت صرخة قهر اهتز معها فضاء قسم الطوارئ وحضر إليه الأطباء والممرضون: "هدا أبوي.. هدا أبوي".

قبل لحظات كان إلياس يمسك مقص الجراح وأدوات ومحاليل وريدية وحقن حاك بها جروح المصابين، لكنه لم يجد ما يحيك جرحه النازف ليلتئم أو مخدرًا للألم، لأول مرة لم تعد تلك الأدوات مجدية لحالته.

حاول الصمت والتماسك أو البكاء من الداخل، سكَّنت وخزات الألم كلمات الزملاء وعبارات المواساة، قبل أن يكسر سكون المكان أصوات أشقائه الأربعة (3 ذكور وبنت) وصلوا في دقائق قليلة، ملأ نحيبهم الغرفة: "أبوي مات، أبوي استشهد".

"رأيته على السرير مضرّجًا بدمائه، حاولت أن أكذب نفسي، فتحت الوثيقة الشخصية وهواتفه لأتأكد أنه أبي، بالرغم من أنني تعرفت عليه من الملامح فالإصابة لم تغير ملامحه، الصدمة جعلتني أكذب نفسي، حتى أنني لست معتادًا على النظر لوجوه المصابين وخاصة الشهداء، لكن شعور داخلي جعلني أبحث عن شيء بين الأسرَّة لم أعرف ما هو" بدموع عينيه يحرك الطبيب أصعب مشهد في حياته لصحيفة "فلسطين".

يتباطأ المشهد أمامه، متحولًا لنافذة يطل بها على الحدث: "كان المشهد كارثي بقسم الطوارئ، كنت أساعد الأطباء، وأمدهم بالمَحاليل والحقن والأدوات، ومن حجم الضغط لم أتعرف على والدي في أثناء محاولة إنعاش قلبه إلا بعد استشهاده عندما ألقيت عليه النظرة".

أدى صلاته الأخيرة

ما أن انتهى عبد الهادي الأشقر (65 عامًا) وهو من سكان مخيم عسكر للاجئين من أداء صلاة الظهر جماعة في أحد مساجد المنطقة الشرقية لمدينة نابلس، وفي أثناء خروجه من المسجد كما بقية المصلين، تفاجؤوا بانسحاب لجيش الاحتلال من نفس المنطقة، "توقف جيب إسرائيلي وأطلق النار على كل الموجودين، استشهد والدي وشاب صغير" تخنق الدموع صوته، وتقطع الكلام في لحظات كان يحاول فيها التماسك مواصلًا رواية التفاصيل السابقة نقلًا عن شهود عيان.

يعمل والده مدرب تعليم قيادة السيارات، وبالرغم من تقدمه بالعمر إلا أنه حافظ على مهنته وساعده في ذلك محافظته على صحته البدنية وممارسته رياضة المشي، فتعطيك ملامحه سنًا أصغر بعشر سنوات حينما تنظر لصورته، "لم يكن مجرد أب، صحيح أنه كان يتعامل معنا بتعاليم الأبوة، كان صديقنا فلا يمشي معنا إلا وأيدينا متشابكة، وهذا دليل على القرب، وكان سندنًا".. تملأ الحسرة قلبه.

مساء الثلاثاء عاد إلياس من عمله متأخرًا وخلد إلى النوم مباشرة من شدة الإرهاق، لم يجلس مع والده لكن وصله صوته وهو يطلب من أشقائه عدم افتعال ضجيج لمنح شقيقهم الهدوء، لكن قبلها بيوم جلسا طويلاً، يعود بذاكرته إليه: "تحدثنا في صالون البيت عن نتائج مباريات كرة القدم العالمية، لأن والدي يحب متابعتها وكان هذا محور حديثنا الأخير".

ما عاشه الممرض الأشقر، واجهه المسعف في جمعية الهلال الأحمر محمد بعارة، حينما توجه لإسعاف مصاب يوجد بمنطقة ينتشر فيها قناصة الاحتلال بنفس اليوم، ويطلقون الرصاص على كل من يتقدم محاولاً إسعافه، إطلاقًا كثيفًا لم يستطع أي أحد الاقتراب.

يستحضر "بعارة" لصحيفة "فلسطين" تفاصيل الحدث عبر الطرف الآخر من الهاتف: "تحت زخات الرصاصة تقدمنا ووضعنا الرجل على الحمالة، وبدأت دون تركيز بإنعاشه، فكان فاقدًا للعلامات الحيوية حتى وصلنا المشفى بالإسعاف، وبحثت في ملابسه على أوراقه الثبوتية كما نفعل لنتفاجأ باسمه عدنان بعارة (72 عامًا) وهو ابن عم أبي".

رفع المسعف هاتفه واتصل نحو والده محاولًا التأكد من الخبر، يقول: "خشيت أن يكون هناك تشابه في الأسماء بين أفراد العائلة، لكن أبي أكد الأمر، كنت في حالة صدمة".

لم تكن هذه الحالة الأولى التي أسعفها بعارة لأقاربه، فقد أسعف العديد منهم بعضهم كانت حالتهم خطيرة، وبالرغم من حجم الصدمة في كل مرة التي يتلقاها يواصل أداء مهمته في إسعافهم، وهو لا يتمنى أن يواجه في يوم من الأيام المشهد الذي عاشه الممرض إلياس الأشقر.

الأشقر وبعارة شهيدان مسنان بين 11 شهيدًا، قتلتهم قوات الاحتلال في اقتحام مدينة نابلس، التي خرجت في جنازة مهيبة تُشيع أقمارها، امتلأت عيون المشاركين بالغضب كما امتلأت عيون ذوي الشهداء بالدموع وقلوبهم بالحزن والحسرة والقهر، نكست "جبل النار" رايات الحزن معلنة الحداد على أرواح أبنائها، ليبقى الأربعاء (22 فبراير/ شباط 2023) محفورًا في ذاكرة الأجيال الفلسطينية.

المصدر / فلسطين أون لاين