فلسطين أون لاين

البيت الجديد أطبق على أنفاس أطفاله حين اهتز بهم

تقرير "عبد الكريم أبو جلهوم".. زائر مؤقت لتركيا نال إقامة دائمة في أرضها

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بعد سنوات طويلة من معاناة الغربة ومحاولة التأقلم على مكان جديد انتقل إليه قبل 12 عامًا اختلفت فيه العادات والأماكن واللغة والأشخاص، تنفس عبد الكريم أبو جلهوم (48 عامًا) الصعداء قبل أربعة أشهر وأوقف نزيف أيام قاسية عاشها نافضًا غبار المعاناة، عندما انتقل إلى منزل جديد، واكتملت معه فرحته بحصوله على الإقامة التركية في منطقة هاتاي جنوبي تركيا.

كما تمنى، حصل على بيت له سقف يُؤوي أحلام أطفاله ونافذة يطل بها على جمال مدينته ومن الأفق يطل فيه على قلب والدته بغزة حينما يسرق الحنين قلبه، قبل أن يستيقظ فزعا (فجر السادس من فبراير/ شباط 2023) عندما شعر باهتزاز جدران المنزل بطريقة عنيفة لم يشهدها طيلة حياته، وإن ذكرته باهتزاز بيته الذي غادره في منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة في كل مرةٍ كانت طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصفُ القطاع خلال حروبها العدوانية وتحدثُ زلزالاً يهوي بالمنازل فوق رؤوس ساكنيها.

اقرأ أيضاً: الصحة العالمية: نحو 26 مليون متضرّر من زلزال تركيا وسوريا

كانت أمامه بضع ثوانٍ للنجاة، حمل طفله الصغير محمد (5 سنوات)، ترافقه زوجته فاطمة أبو سلطان (38 عامًا)، وأبناؤهما نورة (16 عامًا)، وبراء (11 عامًا) وكنزي (9 أعوام)، أصوات صراخ، وخوف أطفال احتموا بوالدهم، حجارة بدأت بالتساقط، انتهى المشهد بتهاوي البيت الجديد عليهم.

فقدان الاتصال

خلال دقيقة توقف الزلزال مخلفًا دمارًا وضحايا بالآلاف في جنوبي تركيا وشمالي سوريا، لكن ارتدادات خبره وصلت إلى كل مكان، عاشت عائلة أبو جلهوم في غزة عدة ساعات تنبش فيها بين الأخبار تحاول انتشال الأمل بين ركام القلق والخوف الذي اجتاح قلوبهم، عندما لم يرد نجلها على مكالماتها على مواقع التواصل الاجتماعي.

"فقدنا الاتصال بهم، كنا نتصل ولم يرد، أختي المقيمة في مدينة إسطنبول حاولت الاتصال بالهاتف الأرضي بلا فائدة" استمرت عائلته كما تقص شقيقته لبنى لصحيفة "فلسطين" حتى ساعات المساء، وهي تبحث عن مصير نجلها، الجميع استبعد موتهم، أو كان هذا رجاء تعلقت آمال العائلة به.

بين غمرة التيه التي عاشته العائلة، تلقت اتصالاً من صديق عراقي مقرب من ابنها "عبد الكريم" وأكد خبر وفاته، حالة الرفض سيطرتْ على شقيقته وعائلتها، تعلل: "رفضنا الخبر، كنا نحتاج لصور وتفاصيل تؤكد لنا الخبر اليقين، لأن صديقًا آخر أخبرنا أن المنطقة مغلقة والدولة أعلنتها منطقة منكوبة، وتمنع الاقتراب منها خوفًا من ترددات الهزات الزلزالية".

دائمًا هناك أصدقاء لا يتركون أصدقاءهم حتى ولو كانوا تحت الركام، المشهد يتباطأ أمام شقيقته متحولاً لنافذة كبيرة تطل من خلالها على الحدث مرةً أخرى: "صديقٌ مقرب من أخي، قال لنا: عندما خرجت من بيتي تذكرت صديقي عبد الكريم فذهبت لبيته فوجدته منهارا"، ووجدوا أخي ساجدًا وفي حضنه أولاده وهي علامة على أنه حاول حمايتهم، فحص النبض والنفس فكانوا متوفين، باستثناء طفله الصغير محمد الذي سحبه بصعوبة عندما استشعر نفسًا خافتًا، وهرع به نحو المشفى محاولاً إسعافه".

عندما وصل للمشفى وجدها تنهار فتوجه صديق شقيقها نحو مركز صحي، في مسير استمر ثلاث ساعات بالسيارة، سار بالطفل بين مشاهد الدمار، وهزاتٍ ارتدادية للزلزال، وشقوق بين الطرقات، أنعشه الأطباء، إلا أن الطفل أبى أن يعيش وحيدًا يتيمًا في دنيا لن يجد فيها وجوه والده وأشقائه.

الحسرة تنبعث من قلب شقيقته "كانت أمنيتي أن يبقى أحد من أولاد أخي بعد إعلان وفاته، في المركز أنعشوا ابنه محمد ووضعوا له الأكسجين، للأسف كما روى صديقه الذي أسعفه لنا، برودة الجو، وصعوبة الموقف كانا سبب موت الطفل".

تعود لبداية المشهد: "للحظات أعاد لنا شيئًا من الأمل عندما أرسل لنا صور الطفل وهو بالمشفى، لكنه عاد وقال لنا: الطفل لم يتحمَّل وتوفي".

مقيم دائم

ضج بيت العائلة بالمعزين، خيوط الحزن ارتسمت على وجه أمه حسرةً على نجلها الذي تغرب عن غزة قبل عدة سنوات، كانت تنتظره أن يعود هو وأطفاله للإقامة الدائمة في وطنه فلسطين، لا أن يتحول لمقيم دائم هناك.

عندما غادر عبد الكريم قطاع غزة، عاش بدايات صعبة في تركيا، نتيجة اختلاف المكان واللغة والعادات والتقاليد، كل شيء كان غريبًا عليه، ومع مرور الوقت تأقلم مع المكان والظروف، رحلة عايشت شقيقته تفاصيلها "كان لديه شقة في غزة ولديه سيارة يعمل بها سائق أجرة، لكن قرار السفر كان بسبب ظروف الحروب والخوف، وبعد 5 سنوات استقدم زوجته وأطفاله عنده".

329643708_892479248468109_4560332910032808787_n.jpg
 

استأجر بيتا في بدايات اغترابه وأنشأ فيه منجرة كانت مشروعه هناك، ثم انتقل لبيت جديد قبل أربعة أشهر وحدث عائلته أن وضعه تحسن وأولاده اندمجوا في المدارس وتعلموا اللغة التركية وتأقلموا على الحياة هناك.

لم تمنعه الجغرافيا البعيدة من ديمومة التواصل مع عائلته، فكان قريبا ومطلعا على تفاصيل حياتهم، حتى أن آخر تواصل له معهم كان مساء الليلة التي سبقت الزلزال الذي حدث فجر اليوم التالي، وهذا ما زاد حجم الصدمة.

تطلُ على ارتباط شقيقها بأطفاله: "كان متعلقا بأولاده تعلقًا غير عادي، يحبهم كلهم، سعيد بابنه الصغير ويناديه: "محمد التركي"، كنت أرى الطفل يجري ويلعب حول والده في كل مرة أتصل به عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، كان يقول لنا: "سافرت حتى أعيشهم حياة آمنة ومرتاحة"، كان سعيدًا في بيته الجديد وأنه امتلك شقة ويدفع أقساطها على مهل، وأن حصوله على الإقامة سهل معاملاته، لكن كل شيء انتهى هناك".

دفن عبد الكريم في تركيا، وأصبح مقيمًا دائمًا فيها، وما زال البحثُ جاريًا لإخراج جثامين أطفاله، وهو واحد من بين أكثر من 100 فلسطيني قضوا في زلزال تركيا وسوريا.