فلسطين أون لاين

وصيَّتها لنجلها "عرس تؤرخه فلسطين"

تقرير على فراش احتضارها.. انقطع اتصال الأسير السعدي بأمه إلى الأبد

...
الأسير رائد السعدي
جنين-غزة/ مريم الشوبكي:

كان الأسير رائد السعدي يهاتف أخاه أمجد خلسة من السجان، وإذ به يسمع صوت الأطباء يهرولون إلى غرفة العناية المركزة حيث ترقد والدته، حاولوا إنعاشها ولكن دون جدوى. التفت أحدهم نحو أمجد قائلًا "البقاء لله"، استفسر حينها رائد من أخيه "شو قالوا؟".

تلعثم أمجد وبلع ريقه "الحجة توفت"، على الطرف الآخر رائد طلب منه أن يضع الهاتف على أذن والدته "سامحيني على غيابي رغم عنك رغمًا عني يا أمي"، تلا آيات من القرآن ثم أُغلق الهاتف، فالدقائق الخمس قد انتهت، ولم ينتهِ حزنه على والدته التي خشيت أن يطرق الموت بابها قبل أن تجتمع بابنها وتودعه الوداع الأخير.

يقول أمجد: "كانت أمي في حالة أشبه بغيبوبة، وحينما نبلغها بأن رائد سيحدثها تحرك عيناها على الفور وتنصت لما يقول".

جهاز الفرح

رائد السعدي (57 عامًا) من السيلة الحارثية غرب جنين، واحد من 25 أسيرًا اعتقلوا قبل توقيع اتفاق أوسلو وتحديدًا في 28 أغسطس 1989 وحكم بالسجن مؤبدين.

أمضى رائد أكثر من عشرين عامًا والاحتلال يرفض طلبه باستكمال دراسته، حتى نجح في السنوات العشر الأخيرة من تقديم امتحانات الثانوية العامة في الفرع العلمي، ودراسة بكالوريوس تاريخ في جامعة الأقصى بغزة، ثم بكالوريوس علم اجتماع في جامعة القدس المفتوحة بالضفة، وحاليًا يتحضر لدراسة الماجستير، كما حفظ رائد القرآن الكريم كاملًا.

توفيت والدة السعدي في عام 2014 التي لم تقطع زيارته إلا بعدما اشتد المرض عليها، كانت تمضي نحو 10 ساعات من يوم الزيارة متنقلة بين حواجز الاحتلال.

على فراش الاحتضار أوصت إخوته بأن يقيموا له عرسًا تحكي عنه كل فلسطين، خبأت له الصحون، وفناجين القهوة، وحتى أغطية النوم، لتهديها إلى عروسه.

كانت "أم عماد السعدي" حاضرة في كل مشهد من حياة "رائد"، وهذا ما رواه في كتابه "أمي مريم الفلسطينية" الصادر عام 2021، عن مؤسسة مهجة القدس في قطاع غزة. يتحدث في سطوره عن 23 عامًا عاشها في بلدته السيلة الحارثية، عن علاقته بالأرض والوطن والعائلة، وعن تجربة اعتقاله الأولى، وعن مقاومته للاحتلال، متغنّيًا بأمّهات الأسرى وبالبيوت الفلسطينية التي احتضنت المقاومين في انتفاضة الحجارة.

أقرب الأبناء

أما والده فقد ذهب بصره منذ ثلاثة أعوام، ولم يعد قادرًا على زيارته، فيما حُرم أحد أشقائه من زيارته لمدة 12 عامًا متواصلة.

بدأ الأب محمد السعدي حديثه عن أقرب أبنائه إلى قلبه، مستذكرًا تاريخ اعتقال رائد للمرة الأولى عام 1984 لمدة 6 أشهر، لرفعه علم فلسطين على أعمدة الكهرباء في بلدة السيلة الحارثية، وكان مطارَدًا لعدة سنوات منذ بداية انتفاضة عام 1987، واعتقل الاحتلال خلال تلك الفترة والدته لمدة 4 أشهر وبعض إخوته للضغط عليه لتسليم نفسه، إلى أن اعتقله "مستعربون" خلال زيارة متخفية لبيته أجراها للاطمئنان على أهله عام 1989.

يقول والده (87 عامًا): "بقي رائد مطاردًا لعامين، جن قادة الاحتلال لأنهم لم يتمكنوا من اعتقاله، وخلال تلك الفترة اقتحمت القوات الخاصة منزلي أكثر من 70 مرة. وفي إحدى المرات اعتقلوني ليضغطوا عليه".

ويتابع: "حينها أخبرني المحامي أن رائد يريد أن يسلم نفسه لكي يقوموا بالإفراج عنك، ثارت ثائرتي وأبلغته رفضي لأني سأخرج فأنا لم أرتكب جرمًا".

ومنذ خمس سنوات لم يعد الرجل الثمانيني يقوى على زيارة نجله، بسبب عناء الطريق والحواجز الإسرائيلية.

حضور في العائلة

يقول شقيقه أمجد: منذ وفاة والدتنا وانقطاع والدي عن الزيارة بات رائد دائم الطلب لنا بعدم زيارته متعللًا بمشقة الزيارة، "لكننا لا ننقطع عنه ونرفض الانصياع لرغبته لأن الزيارة لا تتاح دوما".

آخر لقاء جمعهما كان قبل أربعة أشهر، "يمضي رائد 30 دقيقة من وقت الزيارة البالغة 45 دقيقة في السؤال عن والده وإخوته وأخواته والأحفاد، ومن ثم يحدثني عن نفسه".

يتابع أمجد: "رغم صغر سني وقت اعتقاله حين كان من قيادة الانتفاضة لكن ربطتني به علاقة قوية. كان حنونًا للغاية رغم عصبيته العالية، سريع الرضى، يحب الانضباط".

"رائد" ترتيبه الخامس بين إخوته وأخواته، وله في قلب كل واحد منهم مكانة، فمنهم من سمى ابنه على اسمه، وهنا يستحضر أمجد موقفًا جمعه بوالدته يوم رزق في عام 2008 بولد أراد تسميته "رائد"، "حينها رفضت أمي رفضًا شديدًا، خشيت من الفأل السيئ لأن رائد لم يُتوفَّ بعد لكي أُسمّي على اسمه".