وصف إيهود باراك، رئيس حكومة الاحتلال السابق، دولته بأنها "فيلّا وسط الغابة".. كرّر باراك ذلك مرات عديدة، أقدم تصريح وجدته له بهذا المعنى في عام 2006، ربما مع فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في ذلك الوقت، كان باراك في جوهر تصويره لطبيعة دولته وموقعها، ينطلق من إحساس استعماريّ غربيّ عميق، يعيد ربط دولته بالغرب لكونها مشروعًا غربيًّا، واستناد في الوقت نفسه إلى تفسيرات ثقافية ذات طابع عنصري، تُرجِع التفوق "الإسرائيلي/ الغربي" في "تمييزه بين الحقّ والباطل"، إلى الثقافة اليهودية المسيحية، في حين لا يمكن للعرب امتلاك هذه القدرة على التمييز، لأنّهم أصلًا لا يحوزون هذه الثقافة.
كأنّه يقول نحن مثلكم، مستنيرون، ديمقراطيون، لكنْ إذا كان الغرب برمّته "فيلّا"، فإنّ "(إسرائيل) فيلّا وسط غابة"، فلا يمكنها أن تحمي ثقافتها، وحداثتها، وديمقراطيتها، إلا بالمزيد من العزل، والأسوار، والجدران، والقتل، وانتهاك الإنسان، لأنّ هذا الإنسان ينتمي إلى الغابة، الغابة التي لا يمكن لسكانها التمييز بين الحق والباطل.
إن لم تُظهِر (إسرائيل) المزيد من القسوة، والقوّة، والتمييز، والانتهاك، ستهدم "الفيلا"، البقعة المضيئة الوحيدة وسط الغابة المظلمة والمُوحشة. يقذف هنا باراك، بدعايته التافهة، في وجه الغرب في صورة معضلة أخلاقية، من تلك المعضلات التي يحبّ الغربيون تقليبها كثيرًا، لإدراكهم بتناقضاتهم الجوهرية، بين تاريخهم وراهنهم الاستعماري، وما يمتلئ به من استباحة للإنسان (الآخر)، وبين كل ما يقولونه عن الإنسان وحقوقه عمومًا.
تبدو معضلة باراك، والحالة هذه، نموذجًا آخر من "معضلة الترولي": فبدلًا من أن تسأل إذا كان ثمن إنقاذ خمسة أشخاص السماح بقتل شخص واحد، فأيهما تختار؟ يسأل إذا كان ثمن حماية البقعة المضيئة الوحيدة وسط الغابة هو القتل والانتهاك المستمرّ بحقّ سكان الغابة، فماذا ستختار؟
القصدية الدعائية حاضرة بالتأكيد، في قلب هذا التصوير الإسرائيلي المستمرّ، لموقع "إسرائيل" في المنطقة العربية، الذي كان من تعبيراته، تعبير أقلّ مجازية وأكثر ابتذالًا، بالقول المكرر إنّ "(إسرائيل) واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، من نافلة القول إنّ الواحة بقعة مفاجئة بالماء والخضرة وسط الصحراء، الصحراء تعبير آخر عن الموت، والواحة تعبير آخر عن الحياة الأكثر إدهاشًا، لأنّها الحياة وسط الموت.
لكنّ ذلك في جوهره منبثق عن نظرة استعمارية عنصرية قديمة، مستفادة من كون الحركة الصهيونية انعكاسًا للعنصرية الغربية الاستعمارية، ففي خطابه في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، وصف ماكس نورداو، مستشار هرتزل، شعوب آسيا بأنّها "منحطّة".
نحن في غنى عن العودة إلى الفيلسوف الألماني هيغل، الذي رأى أن الشرق لم يعرف حرية الإنسان من حيث هو إنسان، إلا بقدر انحصار الحرية في الحاكم، في حين بفضل الثقافة المسيحية أدرك العالم الجرماني حرية الإنسان من حيث هو إنسان، ليتأسس التنظير الاستعماري على هذا التمييز العنصري، وينعكس في وعي جيمس بلفور، صاحب الوعد الشهير في تأسيس "وطن قومي لليهود في فلسطين"، كما في خطاب له في مجلس العموم البريطاني عام 1910، قال فيه: "إنّ الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تُظهر تباشير القدرة على حكم الذات، لأنّها تمتلك مزايا خاصة بها ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكمله في ما يسمى عامّة المشرق دون أن تجد أثرًا لحكم الذات على الإطلاق، إنك لا ترى أمة واحدة من هذه الأمم تؤسّس بدافع حركتها الذاتيّة ما نسميه نحن من وجهة نظر غربيّة حكم الذات فهذه هي الحقيقة"، ومن هنا جاءت "الفيلا"، وجاء باراك بخطابه!
باراك عاد بعد سنوات متخوفًا على مستقبل "الفيلا"، ذكر باراك في تغريدة له في شباط/ فبراير 2022 ثلاثة مخاطر تهدد (إسرائيل)، الأوّل: من "الغابة" وهو البرنامج النووي الإيراني، والثاني: متداخل بين "الفيلا والغابة"، الدولة ثنائية القومية، والثالث: من "الفيلا" نفسها وهو تفكك النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، هذا الثالث يعني أن "الفيلا" ستصبح جزءًا من العالم السلوكي للغابة، أو أنّ الواحة ستنضب وتتصحّر، لذلك وفي تغريدة له، في الوقت نفسه، قال يائير لابيد، رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق، إن تفكك النسيج الاجتماعي هو الأخطر، بعد ذلك عاد باراك للتحذير من "لعنة العقد الثامن" في تاريخ "الدول اليهودية"، وإذا كان في هذه المقالة الشهيرة التي حذّر فيها من "لعنة العقد الثامن"، لم يفته التذكير بأنّ دولته موجودة في "محيط صعب لا رحمة فيه للضعفاء"، فإنّه ذكّر بأنّ الانقسام الداخلي هو جوهر بداية التفكك والزوال.
اليوم تدخل (إسرائيل) أزمتها الداخلية، الأصعب في تاريخها، التي تدفع أوساطًا قانونية وسياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وعلمية، للتحذير أولًا من نهاية (إسرائيل) كما عرفوها، وبالتأكيد ثانيًا نهاية (إسرائيل) كيفما كانت، تأتي هذه المخاوف محمولة على سياسات تحالف بنيامين نتنياهو، المستعجل هذه المرّة في إنهاء سلطة القضاء الإسرائيلي.
إذا كانت (إسرائيل) دولة بلا دستور، وإنما بمجموعة قوانين تسمى "قوانين أساس" قابلة للتعديل طوال الوقت، ولا تخضع لأيّ محكمة دولية لحقوق الإنسان، وليس لها إلا غرفة برلمانية واحدة، هذه الغرفة تسيطر عليها الحكومة بطبيعة الحال، وفي القلب عقل أمني مقدّم على كل شيء، فلا يبقى، والحالة هذه لضمان انتظام عقد المجتمع الإسرائيلي إلا سلطة قضائية مستقلة، تأتي تعديلات حكومة نتنياهو للقضاء لتكبيل هذه السلطة القضائية، وإن أمكن القضاء عليها بتحويلها لذراع للسلطة التنفيذية.
تنصّ خطة "إصلاح القضاء" لوزير العدل الليكودي ياريف ليفين على أربعة تغييرات جذرية، هي: تقييد قدرة المحكمة العليا على تغيير القوانين والقرارات الحكومية، وتغيير آلية اختيار القضاة بحيث يكون للحكومة سلطة ما على لجنة اختيار القضاة (ينبغي أن يذكّر هذا بالمراسيم الرئاسية الفلسطينية بخصوص التعديلات على الجهاز القضائي الفلسطيني)، ومنع المحكمة من استخدام اختبار المعقولية للحكم على التشريعات والقرارات الحكومية، والسماح للوزراء بتعيين مستشاريهم القانونيين بدلًا من تعيين مستشارين يعملون تحت إشراف وزارة العدل والمستشار القانوني للحكومة.
كانت المحكمة العليا دائمًا خاضعة للجهاز الأمني والعسكري الإسرائيلي، وللمشروع الاستعماري الإسرائيلي، وتستجيب دائمًا للضرورات الأمنية، لكنها في متعلقات السياسة والاجتماع، كانت تحفظ العقد الإسرائيلي المنتظم بكلّ ذلك العسف التاريخي من عناصر لا جامع بينها، في بيئة مختلفة تمامًا، من الانفراط، بمعنى كانت الديمقراطية الإسرائيلية، والأمن الإسرائيلي، شرطا الاستمرار الإسرائيلي، بالحفاظ على تماسك المجتمع، وبـ"عقلانية" أمنية ثابتة، وإذا كانت تعديلات ليفين على القضاء ستبدأ في تفكيك ذلك الناظم للمجتمع الإسرائيلي، فإنّ اندفاعات الصهيونية الدينية والأحزاب ذات الصلة بها، وسعيها لتعزيز نفوذها في المؤسسة العسكرية والأمنية، من شأنها أن تخصم من ثبات "العقلانية الأمنية الإسرائيلية"، لصالح الاستعجال والهوجائية.
ليس الرهان هنا في أن تصبح (إسرائيل) في أعين الغرب، كبقية "الغابة" أو "الصحراء"، فهي لم تتأسّس على اعتبارات أخلاقية، وإن كان في دوافع التأسيس اعتبارات عنصرية، ولكن الرهان أن شرط الديمقراطية و"العقلانية الأمنية"، أكثر أهمية لـ(إسرائيل) من الناحية الوجودية، منها لأيّ بلد في المنطقة، فلا يوجد بلد، بالمعنى الجغرافي والتاريخي والاجتماعي، في هذه المنطقة مصطنع، سوى (إسرائيل).
المفارقة أن نتنياهو، الذي يَحمِل اليوم معول تدمير النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، حذّر قبل باراك من "لعنة العقد الثامن"، حينما ذكّر أنّ مملكة الحشمونائيم لم تدم أكثر من 80 عامًا، وأنه سيعمل على بقاء (إسرائيل) 100 عام، عمر (إسرائيل) اليوم 75 عامًا، ونتنياهو يقاربها في العمر، كأنّه يقول إنّه قدر (إسرائيل)، سيبقى سيّدها حتى تكمل الثمانين أو المئة، لا يهمّ، المهم أن يبقى نتنياهو الذي قد صار بالفعل "لعنة (إسرائيل)".