حراك دبلوماسي كبير تشهده المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة، حيث زار مصر وفلسطين المحتلة كلٌّ من مستشار الأمن القومي الأمريكي "جاك سوليفان"، ورئيس جهاز المخابرات الأمريكية CIA "وليام بيرنز"، ووزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية "أنتوني بلينكن"، بموازاة حراك سياسي مصري أردني تخلله استقبال رئيس حكومة الاحتلال "بنيامين نتنياهو" في عمان، وزيارة الملك الأردني إلى واشنطن، وزيارة رؤساء المخابرات المصرية والأردنية لرام الله، وزيارة وفد أمني مصري لتل أبيب، تبعها زيارة وفدين منفصلين من حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى القاهرة، ضمن لقاءات سياسية ودبلوماسية تشير إلى حراك سياسي متسارع في ظل ازدياد حدة المواجهة بين المقاومة الاحتلال، وتصاعد التصريحات الصهيونية المعادية للفلسطينيين من وزراء حكومة نتنياهو، وارتكاب جيش الاحتلال مجزرتين في جنين وأريحا، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية طالت العشرات من المدنيين الفلسطينيين في الضفة والقدس، أسفرت منذ بداية العام عن ارتقاء خمسين شهيدًا فلسطينيًّا، بموازاة إجراءات صهيونية تمثلت في شرعنة تسع بؤر استيطانية في الضفة، وتصاعد حملات الاعتقال الجماعي للفلسطينيين، وتنفيذ عمليات هدم لمنشآت ومنازل الفلسطينيين في الضفة والقدس، وشن غارات صهيونية متتالية ضد أهداف مدنية في غزة.
التصاعد الميداني المتسارع على الأرض جاء نتيجة سياسات حكومة نتنياهو الفاشية المتطرفة، وتصريحات وزير الأمن القومي الصهيوني الأرعن "ايتمار بن غفير"، الذي طالب بتسليح المستوطنين الصهاينة، وإعدام الأسرى الفلسطينيين، واتخذ إجراءات عملية للتضييق عليهم في سجون الاحتلال، ووضع خطة عملية لهدم عشرات المنازل الفلسطينية في القدس، وتشريد مئات العوائل الفلسطينية، كما طالب بشن عملية عسكرية شبيهة بعملية "السور الواقي" في أحياء القدس، وتنفيذ اعتقالات جماعية تطال المواطنين المقدسيين، ضمن سياسات الصهيونية الدينية المعادية للفلسطينيين، والتي تُشبع غريزة القتل في نفوس المتطرفين الصهاينة، لكنها حتمًا ستؤدي إلى تفجير الأوضاع في المنطقة برمتها.
في المقابل شهدت عمليات المقاومة تصاعدًا كبيرًا، حيث رصد مركز المعلومات الفلسطيني "معطى" تنفيذ (1448) عملًا مقاومًا خلال يناير الماضي في الضفة والقدس، كما أوقعت العمليات الفردية التي نفذها شبان وفتيان مقدسيون في القدس المحتلة أحد عشر قتيلًا صهيونيًا من جنود الاحتلال ومستوطنيه خلال الأسبوعين الأخيرين، في حصيلة هي الأعلى منذ سنوات، مما أربك المنظومة الأمنية للاحتلال، وجعلها تقف عاجزة أمام عمليات المقاومة.
الأحداث الميدانية المتصاعدة دفعت الإدارة الأمريكية إلى التدخل العاجل في المنطقة، في ظل مخاوف واضحة أشارت إليها تصريحات رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية "وليام بيرنز"، الذي توقع اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة خلال الفترة المقبلة، وهي أحداث ستؤدي حال وقوعها إلى استعادة القضية الفلسطينية حضورها المؤثر على صعيد المجتمع الدولي، بما يخالف أهداف الولايات المتحدة، ومساعي الإدارة الأمريكية إلى تجييش المجتمع الدولي ضد روسيا، من خلال إبقاء التركيز الإعلامي والسياسي على أحداث وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى رغبة الولايات المتحدة في مواجهة النمو الصيني المتصاعد سياسيًّا واقتصاديًّا على صعيد الساحة الدولية، لذلك تابعنا مؤخرًا هذا الاهتمام الأمريكي، وإعلان الخارجية الأمريكية تمسكها بحل الدولتين، وإبقاء الوضع الراهن في الأماكن المقدسة، وهي رؤية سياسية تتعارض عمليًّا مع إجراءات حكومة نتنياهو، وأهداف الصهيونية الدينية التي ترى بأن الوقت حان لفرض رؤيتها المتطرفة بالقوة على الأرض الفلسطينية المحتلة، من خلال إطلاق مشروعها الاستيطاني الكبير بضم الضفة، ومنع تحقيق أي تسوية سياسية مستقبلية مع الفلسطينيين، وإنهاء الوصاية الأردنية على المقدسات، وفرض سيادة الاحتلال على المسجد الأقصى، وهي أهداف بدت واضحة من خلال تعمد حكومة نتنياهو توجيه إهانة غير مسبوقة للمملكة الأردنية، تمثلت في منع السفير الأردني من الوصول للمسجد الأقصى والتهديد باعتقاله قبل أسابيع قليلة.
الحراك الدبلوماسي الأمريكي يهدف إلى تهدئة الأوضاع الميدانية من جهة، ووأد المقاومة الفلسطينية المتصاعدة في جنين ونابلس من جهة أخرى، كما تسعى الولايات المتحدة من خلال دعمها للتدخل المصري الأردني إلى إقناع السلطة الفلسطينية بتهدئة الأوضاع، والقيام بإجراءات عملية تكفل عدم اندلاع الانتفاضة الثالثة قريبًا، خاصة مع دخول شهر رمضان المبارك، حيث تتقاطع أعياد الاحتلال مع رباط الفلسطينيين في المسجد الأقصى، والتوقعات بحدوث مواجهات ميدانية قد تؤدي إلى اشتعال المواجهة مع الاحتلال، وفقدان السلطة سيطرتها على الأراضي في الضفة المحتلة.
من ناحية أخرى فإن الحراك المصري مع الفصائل الفلسطينية يهدف إلى تثبيت التهدئة المتبادلة في غزة، وتحييدها عن التدخل أو دعم المقاومة في الضفة والقدس، إلا أن هذه الجهود الدبلوماسية ستبقى ضعيفة وغير مؤثرة ما استمرت حكومة الاحتلال في تنفيذ مخططاتها الاستيطانية في الضفة والقدس، وارتكاب الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين، والتضييق على الأسرى في السجون، وهي سياسات عدوانية ستؤدي حتمًا إلى استمرار تصاعد عمليات المقاومة، وقد تفجر شرارة الانتفاضة الثالثة مع أي حدث ميداني يؤدي إلى وقوع ضحايا فلسطينيين خلال الفترة المقبلة.