إيران والسعودية وأوكرانيا والقضايا المحلية
في 29 كانون الأول (ديسمبر)، ألقى رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطاباً في الكنيست أطلق فيه حكومته الجديدة وحدد أولوياته الرئيسة الأربع: “أولاً: وقبل كل شيء التصدي لإيران. ثانياً إعادة بسط الأمن والحكم داخل (إسرائيل) ثالثاً: التعامل مع ارتفاع تكلفة المعيشة ومشكلة الإسكان. ورابعاً: توسيع دائرة التطبيع بشكل كبير”. وعُد البند الأخير إشارة إلى تطبيع العلاقات مع دول عربية أخرى، وخاصة السعودية. وسيتطلب تحقيق هذا الهدف مساعدة نشطة من إدارة بايدن.
وفي المقابل، ألمح المسؤولون الأميركيون إلى رغبتهم في الحصول على التزامات من (إسرائيل) بشأن مسائل رئيسة أخرى، من بينها القضايا الفلسطينية التي تم تناولها في الجزء الأول من هذا المرصد السياسي. ففي رأيهم، تتعارض بعض المطالب التي يطرحها شركاء نتنياهو في الائتلاف، الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف، مع أهدافه الاستراتيجية في المنطقة.
مواجهة إيران
حدد "التهديد الإيراني"، الذي وصفه نتنياهو بـ”الوجودي” في خطابه في الكنيست، جزءاً كبيراً من حياته السياسية منذ رئاسته الأولى للوزراء في منتصف تسعينيات القرن الماضي. ومن الناحية النظرية، يُتوقع ألا تثير هذه القضية حالياً خلافاً كبيراً مع البيت الأبيض مقارنةً بفترة ولاية نتنياهو السابقة، التي انتهت في حزيران (يونيو) 2021. فبعد أشهر من المفاوضات النووية غير المثمرة مع إيران، والاحتجاجات المحلية الإيرانية، ومزاعم الدعم العسكري الإيراني لحرب روسيا ضد أوكرانيا، أشارت الحكومة الأميركية إلى تعليق المفاوضات لجهود إحياء “خطة العمل الشاملة المشتركة” للعام 2015 بصورة مؤقتة، وهي الخطة التي عارضها نتنياهو بشدة.
ومع ذلك، تدرك (إسرائيل) تماماً أن "التهديد النووي" بحد ذاته لا يمكن تركه جانباً -حيث أفادت بعض التقارير بأن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب قد تزايد لدرجة أنه أصبح بإمكان طهران إنتاج مواد صالحة للاستخدام في الأسلحة النووية لتصنيع أربع أو خمس قنابل في أقل من شهرين. وفي مقابلة مع قناة “العربية” في 15 كانون الأول (ديسمبر)، أعلن نتنياهو: “أنا ملتزم بفعل كل ما بوسعي فعله لمنع إيران من امتلاك ترسانة نووية. وبطبيعة الحال لن أحدد ذلك كبند هنا، ولكنه التزام مؤكد قمتُ به تجاه نفسي وجمهور (إسرائيل). أريد أن نحمي أنفسنا من إيران ومن نظام يدعو علانية إلى القضاء على (إسرائيل)”. ثم أشار إلى أنه سيتخذ الإجراءات اللازمة مع واشنطن “سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا”.
تنتاب (إسرائيل) مخاوف متعددة ومحددة بشأن ما قد يحدث في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة. وعلى سبيل المثال، سيتم رفع بعض أهم قيود الاتفاق النووي قريباً: سينتهي الحظر المفروض على تطوير صواريخ باليستية ذات قدرة نووية في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وتنتهي صلاحية خيار إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 2025. ويبدو أن (إسرائيل) عازمة على تطوير خيارها العسكري قبل الموعد المذكور.
اعتبر رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينيت، أن نتنياهو فشل في إعداد الجيش لمواجهة تقليدية مع إيران، واعتمد بدلاً من ذلك على حملات التخريب والاغتيال السرية. ومع ذلك، من غير الواضح ما إذا كان بإمكان (إسرائيل) بناء قدرة هجومية موثوق بها بمفردها.
وذكر المسؤولون إمكانية استخدام ناقلات تزويد الوقود من طراز “كيه سي-46” من الولايات المتحدة لتنفيذ سلسلة متعددة من الضربات اللازمة لاختراق المنشآت النووية الإيرانية المحصنة، بما فيها مجمع “فوردو” الجبلي. ولكن، كما هو مقرر، لن تبدأ هذه الناقلات بالوصول قبل تشرين الأول (أكتوبر) 2025، وقد رفض البنتاغون طلبات تسليمها إلى (إسرائيل) في وقت أبكر من الموعد المحدد. ويعتقد البعض أن هناك حاجة إلى المزيد من الطائرات الهجومية أيضاً، لكن تسليم المزيد من الطائرات المقاتلة الأميركية قد يكون معقداً بسبب مشكلة فنية؛ إذ يقول المسؤولون الإسرائيليون إن البنتاغون لم يوافق على طلبهم باستخدام تكنولوجيا الأسلحة الإسرائيلية في الطائرة المتطورة “إف-35”.
وفي غضون ذلك، تضمن تمرين مشترك أجري في تشرين الثاني (نوفمبر) تزويد طائرة إسرائيلية بالوقود بواسطة ناقلة نفط أميركية من طراز “كيه سي-135″، في رسالة واضحة لإيران. ويتوقع إجراء المزيد من هذه التمارين هذا العام.
وحيث لم تعد “خطة العمل الشاملة المشتركة” خياراً مطروحاً في الوقت الحالي، هناك مؤشرات على استعداد واشنطن لإعادة تحديد نهجها تجاه البرنامج النووي كسياسة طموحة “أطول وأقوى” تتضمن وضع قيود أطول أمداً على التخصيب. ولطالما أيدت (إسرائيل) هذه المقاربة، لكن طهران رفضتها رفضاً قاطعاً، وتبدو آفاق السعي فعلياً وراء مثل هذه الصفقة قاتمة مع فشل الطرفين حتى في إعادة إحياء “خطة العمل الشاملة المشتركة”. وعلى أي حال، سوف يحتاج بايدن ونتنياهو إلى العمل معاً لإعداد استراتيجية مشتركة بشأن إيران.
التطبيع مع السعودية
في مقابلته مع قناة “العربية” في 15 كانون الأول (ديسمبر)، كان نتنياهو أكثر صراحة بشأن “توسيع دائرة التطبيع”: “أنا أشير إلى ما يمكن أن يشكل تطبيعا تاريخياً مدهشاً بالفعل مع المملكة العربية السعودية. ضع في اعتبارك أنني ملتزم بتطوير وتعزيز ’اتفاقيات إبراهيم‘ المميزة التي أبرمناها مع جيراننا، ولكنني أعتقد أن التطبيع مع السعودية سيخدم هدفين: سيشكل نقلة نوعية إلى تطبيع شامل بين (إسرائيل) والعالم العربي، وسيغير منطقتنا بطرق لا يمكن تصورها. وأظن أنه سيُسهّل، في النهاية، السلام (المزعوم) بين فلسطين و(إسرائيل). أنا أؤمن بذلك. وأنوي متابعته. وبالطبع، الأمر متروك للقيادة السعودية إذا كانت تريد الانخراط في هذا الجهد. وأنا بالتأكيد آمل أن يفعلوا ذلك”، على حد زعمه.
ومن جانبهم، حدد كبار المسؤولين السعوديين لمختلف الوفود الأميركية الزائرة ثلاثة شروط لإقامة علاقات أكثر وضوحاً مع (إسرائيل)، التي تعتمد جميعها على الخطوات الأميركية:
الارتقاء بالعلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية وتأمين التزامات خطية باتخاذ خطوات من قبل الولايات المتحدة إذا تعرضت المملكة للهجوم.
ضمان تدفق الأسلحة الأميركية بشكل موثوق، والتي تشمل تسليم المشتريات الحالية واستئناف عمليات بيع الأسلحة الهجومية، التي تم إيقافها في شباط (فبراير) 2021؛ وإقامة تعاون مدني في مجال الطاقة النووية، من بينها القدرة على تخصيب اليورانيوم (لا ترغب واشنطن في تقديم قدرات تخصيب لأي شريك).
ولتسهيل التطبيع مع القادة العرب، يميل نتنياهو إلى مساعدتهم على تحسين علاقاتهم مع الولايات المتحدة. ولكن هل سيكون في وضع يمكّنه من كسب ود واشنطن إذا اعتقدت إدارة بايدن أنه لا يتعاون بشأن القضية الفلسطينية؟ يلمح المسؤولون الأميركيون إلى أنهم يريدون رؤية بعض المقايضات من جانبه في مجالات أخرى، مشيرين إلى المكاسب السياسية المفاجئة التي يمكن أن يجنيها من تقدم سعودي. ولكن في نهاية المطاف، لا يمكن لأي درجة من التوسط من قبل نتنياهو أن تضمن استجابة الولايات المتحدة للمطالب السعودية، التي تحمل كل منها تداعيات سياسية معقدة.
تعقيدات روسيا/ أوكرانيا
أوضح الرئيس بايدن، أنه سيقيم الحلفاء من خلال خطواتهم لمساعدة أوكرانيا ضد العملية العسكرية الروسية، وقد واجهت (إسرائيل) انتقادات كبيرة في هذا الصدد من مختلف الجهات. وحتى الآن، قدمت (تل أبيب) مساعدات غير فتاكة إلى كييف، فضلاً عن معلومات استخبارية عن الطائرات المسيرة الإيرانية، ولكن لا يخفى على أحد أن الأوكرانيين يريدون أنظمة دفاع جوي إسرائيلية، وخاصة نظام “القبة الحديدية”.
يتفهم البنتاغون رغبة (إسرائيل) في ضمان عدم مراقبة التكنولوجيا الخاصة بها أو الاستيلاء عليها في القتال وإخضاعها للهندسة العكسية. ووفقاً لبعض التقارير، تطلب دول (عدة) من أوروبا الشرقية شراء منظومة “سبايدر”، المشابهة لمنظومة “القبة الحديدية”، ولكنها لا تثير المخاوف ذاتها المتعلقة بحقوق الملكية. وفي الواقع، تم أساساً تصدير هذه المنظومة إلى العديد من البلدان.
كما دعم بعض المسؤولين الأميركيين الصفقة التي وقعتها (إسرائيل) بمليارات الدولارات لبيع ألمانيا منظومة الدفاع الصاروخي “آرو 3” التي يتم إنتاجها بشكل مشترك (عملية الشراء تنتظر الموافقة النهائية للبنتاغون). ومع ذلك، ليس من المؤكد بأي حال من الأحوال أن (تل أبيب) وواشنطن ستسمحان للمشترين بنقل أي من هذه المنظومات إلى أوكرانيا.
إضافة إلى ذلك، تملك (إسرائيل) اعتبارات جدية فيما يتعلق بروسيا قد تُعقّد استعدادها للمساعدة بشأن أوكرانيا. على سبيل المثال، يقول المسؤولون الإسرائيليون إن إيران أعدت قائمة بالأسلحة والطلبات الاستراتيجية التي ستطلبها من موسكو مقابل توفيرها الطائرات من دون طيار.
ومن المرجح أن يطلب نتنياهو من الرئيس فلاديمير بوتين، ربما شخصياً، عدم تزويد طهران بأسلحة استراتيجية أو تقديم مساعدة لها. ولا بد أن يكون أي تواصل عام مع بوتين في زمن الحرب حساساً في واشنطن، وبالتالي، يحتاج المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون أن يعمدوا سراً إلى وضع قواعد أساسية واضحة لهذا الحوار رفيع المستوى بشكل مسبق، علماً بأن بعض المسؤولين الأميركيين قلقون أساساً بشأن موقف الحكومة الجديدة من أوكرانيا.
وعلى سبيل المثال، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، مؤخراً بأن (إسرائيل) ستتحدث بشكل أقل عن الحرب علناً، مما أزعج حلفاء رئيسيين في الكونغرس الأميركي مثل السناتور ليندسي غراهام (جمهوري من ولاية كارولاينا الجنوبية)، الذي فسر الملاحظة على أن (إسرائيل) تتراجع فيما يتعلق بأوكرانيا.
تحولات في السياسة المحلية
حالياً، تهيمن القضايا المحلية على الخطاب السياسي الإسرائيلي، لا سيما الإصلاح المقترح لنظام المحاكم، والذي يعتقد الكثيرون أنه سيضع الكيان على مسار غير ليبرالي، وحتى غير ديمقراطي.
وأوضح المسؤولون الأميركيون أنه من غير المرجح أن تجذب هذه القضايا انتباه الرئاسة، لكن أعضاء آخرين في الإدارة الأميركية قد يشددون مع ذلك على الأهمية المستمرة للحفاظ على ما تسمى "القيم المشتركة" بين (إسرائيل) والولايات المتحدة. وقد تظهر مخاوف بشأن هذه القضايا أيضاً في تقارير حقوق الإنسان التي ستصدرها الحكومة الأميركية في المستقبل.
ويميل الإسرائيليون إلى التركيز على ما يؤكده (أو يحذفه) المسؤولون الأميركيون رفيعو المستوى، لكنهم قد يخطئون إذا افترضوا أن الولايات المتحدة لا تكترث لقضاياهم الاجتماعية لمجرد أن البيت الأبيض قد لا يعالجها بشكل مباشر.
ويمكن أن يكون للسياسات الداخلية الخلافية آثار مدمرة على المشاعر تجاه (إسرائيل) في الكونغرس وأجزاء أخرى من المجتمع الأميركي.