لطالما حاولت دولة الاحتلال والاستعمار الإحلالي الإسرائيلي ارتداء قناع التنور والإنسانية والديمقراطية الليبرالية الغربية، للتغطية على جرائمها المستمرة ضد الفلسطينيين عبر التاريخ، وقبل، ومنذ نكبة 1948م التي أطلق عليها خبراء "إبادة جماعية"، وليس فقط بالمعنى القانوني لهذه الكلمة أي: قتل أفراد الجماعة الفلسطينية والتسبب بأضرار جسدية ونفسية خطيرة لهم، وفرض مجموعة كبيرة من الشروط الحياتية عمدا بهدف تدميرها بشكل كامل أو كلي، بل بالمعنى الأوسع وهو: الموت المجتمعي، والتدمير البيئي، والإبادة السياسية، والجسدية، إضافة للإبادة الثقافية والاقتصادية والمياه. هذه هي (إسرائيل) الحقيقية وحتى لا ننسى.
مع أن صعود اليمين الديني الفاشي برئاسة إيتمار بن غفير، وسموتريتش، وآفي ماعوز، يحاولون دوماً كالصبية الأغبياء نزع قناع التنور الإسرائيلي، كما يجاهر علناً بفاشيته ووحشيته التي عبّر عنها أحد أهم حاخاماتهم، وهو حاخام صفد المحتلة عام 1948، معلقا على زلزال تركيا وسوريا: "يجب أن نشكر الرب على ما حصل من زلزال؛ لأنه عقوبة ربانية لأعداء (إسرائيل)". إلا أن من لا يزال يقرر ويدير الدفة في (إسرائيل) هو الملثم "نتنياهو"، ووزير جيشه غالانت، ورؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ممن ما زالوا يدركون أهمية لثام وقناع التنور والإنسانية، لحمايتهم من سطوة العدالة الإنسانية.
ومن هنا، فإن قرار (إسرائيل) واحتفاءها بإرسال بعثة إنقاذ خاصة لإنقاذ وإغاثة المنكوبين من جراء الزلزال في تركيا؛ هو جزء من هذه العملية أو من هذا السياق.
أن تتضامن الشعوب وتتعاطف كل الإنسانية مع ضحايا زلزال تركيا وسوريا، فهذا أمر مفهوم وطبيعي، وينم عن الفطرة الإنسانية السليمة في كل بني البشر على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ودياناتهم، وهو تعاطف وتضامن بريء من كل المطامع والمصالح الضيقة، وذلك بخلاف مواقف الحكومات التي تسعى حتى من خلال "المساعدات الإنسانية" إلى أن تحقق مصالحها أيضا. وقد أظهرت التجارب المرة بأن مواقف الحكومات عموما والإسرائيلية خصوصا، لا تنطلق -في معظم الأحيان إن لم نقل في كلها- من دوافع أخلاقية وإنسانية.
لقد حرصت وسائل إعلام الاحتلال على إبراز" الوجه الإنساني" الزائف بالتأكيد لها، من خلال تغطية كبيرة لنشاط البعثة الإسرائيلية لـ"إنقاذ" ضحايا تركيا؛ فكتبت صحيفة يديعوت أحرونوت على سبيل المثال: "العالم يؤدي التحية لـ(إسرائيل) بفضل المساعدات"، كما اقتبست الصحيفة أجزاء من منشورات على مواقع التواصل أصدرها أتراك وعرب؛ جهلا ونفاقا، أو غير ذلك، يكيلون فيها المدائح والتحايا لموقف (إسرائيل) "النبيل" المزعوم، فهل نجحت دعاية الاحتلال في التضليل والتسويق لدولة التطهير العرقي؟
لا أعتقد ذلك، إنما هي منشورات لا تمثل الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية والإسلامية التي ما زالت تدرك فظائع (إسرائيل) في جرائم الإنسانية في فلسطين. ولأن تدمير الفلسطينيين متجذر في ذاكرة المحتلين في (إسرائيل)، فلم يجد كبير محللي يديعوت أحرونوت ناحوم برنيع في 9 شباط/ فبراير طريقة أنسب لوصف هول المواقف في زلزال تركيا إلا من خلال تقريب الصورة، وتشبيه دمار تركيا بالدمار الذي تتركه الطائرات الأمريكية التي يقودها طيار إسرائيلي، بعد قصفها لأحياء ومدن ومناطق قطاع غزة المكتظ بالسكان المدنيين، هكذا فقط -وفقا لبرنيع- يمكن وصف حالة الأتراك من بعد مصيبة الزلزال.
وليس هذا غريبا، فالتدمير والإبادة والنكبة سياسة جديدة قديمة لـ(إسرائيل)، فضل المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بال بأن يسميها وبحق؛ باسمها الأنسب الذي يمكن للعالم أن يفهمه وهو "التطهير العرقي"، وهو حالة في منتهى الوضوح، ووفقا للتعريفات العلمية للمصطلح.
وفي المقابل، فمن يدرك كما الفلسطينيين الذين ذاقوا وبال طائرات الاحتلال المدمرة، معنى وحجم تداعيات آثار المأساة الإنسانية الكبيرة التي يعيشها إخوانهم وأشقاؤهم في تركيا وسوريا، التي لن يستطيع الإسرائيليون -كما يردد كبار الحاخامات الصهيونية الدينية كحاخام صفد شموئيل إلياهو- أن يدركوها. وكيف لهم ذلك، وقد أعمت أبصارهم القوة الغاشمة، وختمت على قلوبهم أساطير القوة المزيفة، وقد لا يسعفهم قناع بعثة الإنقاذ إلى تركيا العزيزة.