مؤتمر القدس بعنوان "صمود وتنمية" الذي انطلقت أعماله أمس الأحد، بمقر الجامعة العربية، يعد خطوة هامة، ولو أنها جاءت متأخرة جداً، فهي المرة الأولى التي تخصص فيها الجامعة العربية وقتاً من أجل مدينة القدس منذ عام 1967، وكان يفترض أن مدينة القدس لها مكانة خاصة، وتحظى بأهمية عربية وإسلامية تجعلها على رأس أولويات وأجندات الجامعة، كون قضيتها لا تقتصر على فلسطين وحدها، بل تأخذ أبعاداً دينية، وتاريخية، وحضارية، وثقافية تخص العرب والمسلمين عامة، والتي لم تخرج عن هذا الإطار على مر الأزمنة ، والتاريخ شاهد على أن المدينة المقدسة كانت دائمًا محط أطماع الاستعمار والاحتلال، ولكن في كل مرة تحرر وترجع إلى عروبتها.
لعل اللافت في مؤتمر القدس، هو حضور صوت فلسطيني من أهل المدينة من المقدسيين؛ بهدف إيصال صوتهم، ولعرض قضية القدس على الرأي العام العالمي، وشرح تفاصيل ما يحدث في القدس، وخطورة أهداف الاحتلال الإسرائيلي على الوضع الديني، والتاريخي، والقانوني للمدينة والمقدسات على رأسها المسجد الأقصى المبارك، خاصة بلدتها القديمة، التي تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية فرض واقع جديد، وتغيير الوضع القائم فيها، وطمس الهوية العربية الإسلامية والمسيحية، إذ تشن هجمة شرسة على المقدسيين بطردهم من منازلهم وهدمها، وإجبارهم على العيش في الشارع، دون أن يقابل ذلك بموقف من الجهات الرسمية الإسلامية والعربية، أو حتى المستوى الرسمي الفلسطيني، عندما أبعد القدس عن جوهر الصراع، بتوقيع ما يسمى باتفاق أوسلو المشؤوم، الذي سلم بأنه لا يحق للسكان المقدسيين ولحاملي الهوية الإسرائيلية الحصول على جواز سفر فلسطيني، وأكثر من ذلك جعل مشاركة المقدسيين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة عبر صناديق البريد "الإسرائيلية"، والفائزين من أعضاء المجلس التشريعي لدائرة القدس، لا يحق لهم ممارسة نشاطاتهم، ضمن المناطق الفلسطينية المقدسية، والواقعة ضمن ما يسمى حدود بلدية الاحتلال في القدس.
لقد سكت العرب على احتلال القدس، وإحراق المسجد الأقصى المبارك، وسكتوا على قرار ضمها في عام 1980، وقرار ترامب بجعلها عاصمة للاحتلال، وكانت نتيجة هذا السكوت تمادي سلطات الاحتلال الإسرائيلية أكثر فأكثر بالتغول على المدينة، وتحويلها إلى "جيتو" مغلق، تحيط بها المستوطنات من جميع الجهات، بل أصبحت جاثمة في قلب الأحياء العربية وفي قلب البلدة القديمة، وإضافة إلى ذلك أحاطها الاحتلال بجدار الفصل العنصري، بفصلها تماماً عن محيطها الفلسطيني، جغرافياً، وديموغرافياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً، وحياتياً، ومحاولته تهويد المدارس عبر فرض المناهج الإسرائيلية في مدارس القدس واستهداف التعليم والصحة.
الاحتلال يتعامل مع المقدسيين، ليس بأنهم سكان المدينة الأصليين، فيعمل على هدم منازلهم، أو مصادرتها وإعطائها للمستوطنين، وفرض الغرامات الخيالية على ما يسمى بالبناء غير المرخص، ناهيك عن الشروط التعجيزية للحصول على رخص البناء، وفرض الضرائب الباهظة “الأرنونا” بغرض دفعهم للهجرة القسرية خارج المدينة المقدسة، ولا ننسى معاناة المقدسيين القاطنين خلف الجدار؛ بسبب انفصالهم عن مركز حياتهم، حيث صعوبة الالتحاق بالمدارس، والأعمال، وتقيد حرية الوصول إلى المسجد الأقصى، والحفريات التي تجري تحته خطوة على طريق هدمه، وتهويد مداخله، باقتحامه من المستوطنين، وإقامة الشعائر التلمودية الإستفزازية، وإقامة ما يسمى بالهيكل المزعوم مكانه، ناهيك عن نبش قبور المسلمين في مقبرة مأمن الله في "القدس الغربية"، وقبور أموات أهالي السواحرة الغربية (جبل المكبر) .
يسود شعور لدى الفلسطينيين بتقصير إسلامي وعربي في دعم مدينة القدس المحتلة، في وقت يواصل الاحتلال الإسرائيلي إجراءاته العسكرية ضد أهالي المدينة، فالقدس اليوم ليس بحاجة للتبرعات على طريقة عباس “شيقل للقدس”، بل هي في أمس الحاجة لجهود الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين بإرجاعها إلى حضن فلسطين بعد أن حيدت تماماً بموجب اتفاق أوسلو، وتركت وحدها تواجه تهويد الاحتلال الصهيوني، ولا أحد يشك في صمود المقدسيين والمرابطين في الأقصى، وقد أثبتوا عدم تخليهم عن مدينتهم وممتلكاتهم ودفاعهم المستميت عن المقدسات، ليس بديلاً عن الأمة -وإن كان هذا واجب- وإنما فداء لها.