ما الذي يجمع الفلسطينيين بالشهداء الخمسة، الذين ارتقوا في اشتباك مع جيش الاحتلال في مخيم عقبة جبر، فجر الاثنين (السادس من شباط/ فبراير)؟! السؤال نفسه يستكشف الجامع بين عموم الفلسطينيين والشهداء التسعة الذين ارتقوا قبل ذلك في جنين في السادس والعشرين من كانون الثاني/ يناير، وهكذا فالسؤال يتجه للحدث الفلسطيني، حدث شهادة كان أم حدث فعل مقاوم، بغض النظر عن شكله وأداته.
بادى الرأي أنّ هذا السؤال لا معنى له، فالجامع الفلسطيني، معلومة عناصره كلّها، وحيثياته كلّها، فالهمّ واحد، أوّل الأمر وآخره، لكن القيمة في السؤال تتضح بالانفعال بالحدث، في زمن "السوشال ميديا"، وبعد هذه السنوات الطويلة التي راكمت وقائع هائلة ووعياً متبايناً في المجرى الفلسطيني، على الأقلّ منذ نهاية انتفاضة الأقصى، وبالأحداث الفادحة التي تلت ذلك إلى اليوم. هذا الانفعال بالحدث هو إجابة على هذا السؤال الضمني، الذي قد لا ندركه بما هو سؤال، أو قد لا نتيقظ إلى أنّ كلّ واحد منا، بانفعاله، هو يجيب على نحو ما عن موقعه بالنسبة للحدث.
لو جرت إعادة تصوير ما جرى في عقبة جبر، مع اصطناع حاجز بين الفلسطيني المتلقّي للحدث، وبين الشهداء الخمسة، وكأنّه مشهد تمثيلي، فسوف نجد عناصر التراجيديا كلّها، كما يحدّدها أرسطو، وكما هي في الفنيات الدرامية، قصّة وبطل (بطل أي قصة)، أو رفقة من الأبطال، يتسمون بالمبادرة، ويسارعون للنهوض بواجب ما، وتعظم فيهم عوامل جذب أخلاقيّ عالية، ويتحرّكون للاندماج مع مجموعات شبيهة للمشاركة في حمل المسؤولية ذاتها، وهذا الاندماج يقوم على دفع الثمن والتضحية، ويتطلّب المواجهة مع عدوّ أقوى؛ هوّة القوّة التي تفصله عن أبطال القصة لا يمكن تصويرها لضخامتها.
ثمة تراجيديا في هذا المشهد، تكتمل باستشهاد الخمسة، بعد وقت قصير على محاولتهم تنفيذ عملية في مطعم استيطاني، يوم السبت (الثامن والعشرين من كانون الثاني/ يناير). عُطْل غير متوقع في السلاح، يَحول دون أن استكمال عمليتهم، يحاول الاحتلال اعتقالهم أو اغتيالهم، بعد أسبوع في اقتحام لمخيمهم، فيشتبكون معه في ظهور علني، يتحلّى بالتخفّي خلف الأقنعة، ثم يغتالهم أخيراً.
لا تقتصر عناصر التراجيديا، حسب رؤية أرسطو لها، على ما ذكر، فالتراجيديا عملية محاكاة، لقصة معروفة، يترك فيها المُحاكي لمساته الخاصّة. كتيبة مخيم عقبة جبر نمط من المحاكاة، في بيئة مختلفة، لأنماط التشكيلات المسلّحة في جنين ونابلس. ولو اعتمدنا تقنية إعادة التصوير الواقعي، وكأنّه مشهدية تمثيلية، وتوهّمنا حاجزاً بين مقاتلي مخيم عقبة جبر ومقاتلي نابلس وجنين، واستعرنا مجدداً رؤية أرسطو للتراجيديا، فإنّ هذه المحاكاة حاولت أن تستكشف الأخطاء في تجارب جنين ونابلس، فالتحوّل التراجيدي نحو المأساة يحصل بخطأ من البطل، والجمهور المتفرّج يستكشف هذا الخطأ، بوعيه للعنصر الجامع بينه وبين البطل، ثمّ يسعى لتجاوز ذلك الخطأ، فبدأ مقاتلو عقبة جبر بعملية مباغتة، لكنهم عادوا تالياً للشكل العلني الذي ظهر في جنين ونابلس، حتى استشهدوا.
ثمة عنصر تراجيدي آخر، وهو اللا متوقع في قلب المتوقع، فإذا كانت المحاكاة عملية استعادة لقصة معروفة، فإنّ المحاكي يمتلك من القصدية والوعي ما يصنع فيما هو معروف، تعديلات خاصّة به. كان الموقع، هذه المرّة، هو أهمّ هذه التعديلات، فالموقع في أريحا غير متوقع، بالنسبة لمدينة دائماً جعلت كثافتها السكانية المحدودة، وانعزالها الجغرافي، حضورها أقلّ كثافة في الفعل النضالي، وهو أمر مفاجئ من وجه، ولكنه يملك وجهاً آخر للمفاجأة من حيث الموقع الاستراتيجي لهذه المدينة كذلك.
ما يمكن أن نسميه في الواقع بالتمدد والإلهام والتوليد، وسميناه في الدراما التراجيدية بالمحاكاة، كان في المكان الأقلّ توقّعاً بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء، في مخيم عقبة جبر، وليس في أيّ مخيم فلسطيني آخر أكثر كثافة سكانية، وألصق بتجمعات الفلسطينيين، وله راهنية معروفة بالتسلّح، وتاريخ أعمق في الانخراط النضالي. هنا تشتد المشهدية توتراً وتمتلك المزيد من الجذب، كما بدأت القصة أصلاً بتعديلاتها الخاصّة، بالعملية المباغتة التي تعرقلت بخطأ فوق إرادة البطل التراجيدي، خطأ تمثّل في عطل في السلاح.
ثمة اختلاف بين أفلاطون وأرسطو حول الأعمال الفنية والأدبية التخيّلية، بحيث يراها أفلاطون رؤية متوهمة للواقع، تفضي إلى مشاعر ضارّة، بينما يراها أرسطو فرصة لمعرفة أنفسنا وحقيقة مشاعرنا، حينما نشاهد على المسرح ذلك العمل المُحاكِي، ثمّ نتمكن بعد ذلك من الاستفادة من الخطأ، ومن إعادة صياغة مشاعرنا، ومعالجة الأبعاد الضارّة فيها، بمعنى أن المشهدية التخيلية هذه تستثير في المتلقي الإحساس بالمسؤولية تجاه الموضوع الذي تطرحه، فالتفاعل مع الحدث والتعاطف مع البطل يعود في سؤال: "ماذا يمكن أن أفعل؟!"، والعملية برمّتها هي تعبير عن الجامع بين البطل وبين المشاهد.
بالعودة إلى التراجيديا الواقعية، أدرك بعض الشبان في مخيم عقبة جبر، على نحو مبدئي وبدهي وغريزي، الجامع بينهم وبين عموم المقاتلين والشهداء في فلسطين، وتبيّن لهم أن التحقّق في هذه الجامعية بالمحاكاة، أي بالاستجابة الجادّة لدافع الإلهام، ولأنّ الشعور بالجامعية كان صادقاً، كان لا بدّ، والحالة هذه، من السعي للتعديلات الخاصّة التي تجعل المحاكاة غير افتراضية، وأكثر واقعية، أي بمطابقة البطل وفعله مع الواقع، فهي ليست رؤية زائفة للواقع، وفي الوقت نفسه تتضمن هذه التعديلات عمليّاً الملاحظات التي قد تُؤخذ على الأصل، في جنين ونابلس، فبدأت بعملية مباغتة.
هذه المشهدية من جنين إلى نابلس إلى عقبة جبر، تطرح كل الأسئلة التي تتصاعد حول ظاهرة التشكيلات المسلحة شبه العلنية، التي أخذت بالتبلور منذ النصف الثاني من العام 2021، ولأنّ الفلسطينيين لا يشتركون في الفعل نفسه، إذ ذلك ضرب من المستحيل، فلا يخلو الأمر مع تطوّر التقنية وأدوات البث وتغطية الخبر وتوفير المنابر للتعقيب عليه، من فرجوية ما، تأخذ حظّها الكامل من التفاعل مع الحدث، ومحاولة تصحيح أخطاء البطل بالنقاش المحكي، فالتراجيديا الواقعية لها بعد افتراضي وهمي تخيلي، من خلال وسائط "السوشال ميديا"، وما يتحصّل في هذا البعد، يكشف كيف يجيب كلّ فلسطيني على سؤال: ما الذي يجمعنا بهؤلاء الشهداء؟!
أي أنّ تعبيرات التعاطف إن كانت مقيّدة، بالوعي الحزبي أو المناطقي، أو حرّة بالجامع الفلسطيني الشامل، ثمّ محاولة استشكاف الأخطاء لتجنّبها، إن كانت واعية بالبطولة التراجيدية وما تضيفه، والسياقات الموضوعية لأخطاء الأبطال، أم غافلة عن إضافة البطولة، ومتعالية على السياقات الموضوعية، هي الإجابة الفعلية على ذلك السؤال: ما الذي يجمعنا بهؤلاء الشهداء؟!
بالنسبة لشهداء مخيم عقبة جبر، أدركوا الجامع الحرّ المجرّد من قيود الحزبية والمناطقية، واستكشفوا سؤال الواجب والمسؤولية من فعل أقرانهم في أماكن فلسطين الأخرى، وسعوا لمحاكاة واقعية، تتضمّن رؤيتهم وتعديلاتهم الخاصة، ومحاولة الاستفادة من التجارب التي وضعوا عليها ملاحظاتهم، لتصحيح أخطاء الذين سبقوهم، ولأنّ السياقات الموضوعية لم تحتمل بعد القدرة على الاستفادة الكاملة والتعديل الدقيق، كان لا بدّ من حصول الأخطاء الخاصّة بهم.
يمكن القول، والحالة هذه، إنّ من الإضافات المهمّة التي قدّمها شهداء مخيم عقبة جبر، هي الطريقة في معالجة هذه المشهديات الواقعية، بالسعي الصحيح لمحاكاتها، فمحاكاتها، كما رأوا، تعني مدّها وتوسيعها، وتشتيت العدوّ بها، وزيادة عناصر الإلهام والجذب والتوليد. وضمن السياقات الموضوعية القائمة، لا بدّ وأن تقع أخطاء في الأثناء. أمّا المعالجة لهذه المشهدية، بالنقد المتعالي على إدراك السياقات الموضوعية، فهي فرجة محضة، أو انفعال مقيد بقيد يحدّ من الجامعية الفلسطينية الواحدة!